المشاركات الشائعة

السبت، أبريل ٢١، ٢٠٠٧

(حقائق عن البهائية رواية بهائي عربي5 والاخيره البهائية وحمل السلاح)

كما ان مركز اليهود الروحاني موجود في اسرائيل اليوم، وان هناك العديد من اليهود ما زالوا يعيشون في مختلف الدول العربية كاليمن والمغرب على سبيل المثال، فهل يعقل اتهامهم بالعمالة لاسرائيل؟
وعلى ذات المنوال ينطبق هذا التساؤل على جميع اتباع الديانات الأخرى المعروفة وغير المعروفة كالصابئة والمجوس والبوذيين والبرهميين والكونفوشيوس والهندوس وغيرهم مما لا عد ولا حصر لهم في شتى بقاع الأرض، فهل ان علاقتهم بمراكزهم الدينية أو الروحية في غير بلدانهم يعتبر نوعا من العمالة او التجسس؟ انصفوا بالله عليكم.
وحتى لا نبتعد عن أصل الموضوع، فالديانة البهائية مقرها الاداري المقام في فلسطين في مدينة حيفا، وهناك أقيم قوس من خمسة أبنية رائعة ضخمة لإدارة شؤون البهائيين في جميع أنحاء العالم، ولقد خص كل بناء منها لوظيفة محددة معينة، فبيت العدل الإلهي ويسمى (دار التشريع) تستقر بنايته في الوسط، والبناية الثانية المتحف (دار الآثار)، والثالثة دار التبليغ (الترويج)، والرابعة دار الانشاء (السكرتارية)، والخامسة دار التبيين وخصصت لبحوث العلماء البهائيين. ومن المعلوم أن مثل هذا الأبنية الضخمة بحاجة الى أموال طائلة لاقامتها وتشييدها وبنائها وخدمتها وصيانتها ودفع رواتب القائمين على صيانتها وخدمتها والعمل داخلها، ولا يسدد كل ذلك إلا من خلال حقوق الله والتبرعات التي يرسلها البهائيون من جميع انحاء العالم. أما إذا فاض شيء من هذه التبرعات وحقوق الله، فلبيت العدل الأعظم كامل الحق في توزيعها على الفقراء والمعوزين من البهائيين وغيرهم في جميع أنحاء العالم من خلال إقامة المشاريع الانتاجية او الخيرية او المدارس والمستشفيات للمساعدة في تحسين أحوال الناس الاجتماعية دون النظر الى أديانهم أو قومياتهم. فإذا اعتبرنا أن الأموال المرسلة الى بيت العدل في فلسطين جريمة، فهل ينطبق مثل هذا التجريم على بقية أتباع الديانات الأخرى عندما يرسلون زكاتهم الى مراكزهم الروحانية والدينية؟
ومن بين المفتريات الأخرى التي تلصق بالبهائيين، تهمة جنوحهم الى السلام ونبذ العنف والقتال، ولا أدري هل أضحك أم أبكي من سذاجة هذه التهمة! فقبل كل شيء نشاهد في هذه الأيام ان جميع شعوب العالم وأتباعها ينشدون السلام ونبذ الحرب، بل وأصبح السلام مطلباً عالمياً للشعوب والحكومات، وهناك من الدول العربية من وقّعت على اتفاقيات سلام مع دولة اسرائيل، وأكثر من هذا.. فالفلسطينيون أصحاب الأرض الشرعيين قد اعترفوا باسرائيل ووقعوا معها اتفاقيات سلام ونبذ العنف والقتال، كما أن غالبية شعوب العالم وحكوماتهم قد اتفقت على محاربة الارهاب والقتل والتخريب. فلماذا يتهم البهائيون عندما يدعون للسلام ونبذ الحرب دون غيرهم؟ عجبي!
وبهذه المناسبة أود العودة الى ما نزل من تعاليم إلهية على حضرة بهاءالله قبل أكثر من قرن من الزمان، ففي ألواحه الى ملوك ورؤساء العالم، دعاهم الى هذا الهدف السامي، وشرح كيفية إحلال السلام في الأرض، وذلك من خلال تشكيل حكومة عالمية منتخبة من حكماء البشر وعقلائهم لتراقب أعمال الحكومات الوطنية وتقوم على تقديم النصائح والارشادات لها للرفق بمواطنيها وتطبيق العدالة فيما بينهم، ونصح بانشاء جيش عالمي يأتمر بأمر الحكومة العالمية ليحول دون اعتداء الدول على بعضها البعض، ونصح بتقليل عدد جيوش دول العالم الوطنية، إلا على قدر المحافظة على أمن البلاد وسلامة الوطن والمواطنين، وحذر من خطر الحروب على البشر ومن احتمال انتشارها عالميا. فهل يجد العقل السليم تقصيرا في كل هذه المبادئ الحميدة لحفظ الجنس البشري.!
لقد مررنا سابقاً وعلى عجالة، بتهمة أخرى تلفق بحضرة الطاهرة (قرة العين) وتطعن في شرفها وعفتها وسلوكها. ولنأخذ فكرة عن حياة هذه المرأة المؤمنة البطلة الشهيدة. وعلينا أن نتذكر أن مثل هذه التهمة البشعة، لم تسلم منها حتى زوجة سيدنا محمد(ص)، حينما طعن العرب في شرفها، وكيف شاعت هذه الفرية بين الناس حتى برأها رب العالمين منها.
ولدت حضرة الطاهرة، في عائلة مسلمة عريقة. كان والدها كبير علماء المسلمين في مدينة اصفهان، وعمها خطيب الجمعة فيها، وزوجها كان حجة الاسلام في مدينته بعد والده. كانت ذكية جدا في صغرها تستمع بشغف الى كل ما كان يدور من نقاشات علمية ودينية بين والدها وعمها ومن يجتمع معهما من بقية علماء الدين في بيتهم. ونتيجة لترعرعها في مثل هذا البيت الاسلامي الشريف الذي كان جميع سكان المدينة يكنون له أقصى آيات التبجيل والاحترام، زاد ذلك من تفتح عقليتها وشغفها في فهم أمور الدين، فدرست اللغتين العربية والفارسية يساعدها والدها في ذلك بعدما خصص لها مدرسين أكفاء في علوم الدين والفقه والتفسير وغيرها، فصارت شاعرة تكتب الشعر باللغتين، لدرجة أن قال أباها عنها ذات يوم متأسفا: وا أسفاه.. لو كانت صبياً لحملت اسمي من بعدي. وعندما بلغت حضرتها سن الزواج، زفت الى ابن عمها، وانجبت منه ثلاثة أبناء، لكن محبة الزوجين للعلم والمعرفة ورغبتهما الشديدة في متابعة علومهما الدينية الى مستويات عالية، دفعتهما للسفر الى مدينة كربلاء لدراسة الفقه والعلوم الاسلامية حتى ينالا درجة (حجة الاسلام). فكان للزوج ما أراد بعد عدة سنوات من الدراسة، بينما منع علماء الشيعة المسلمين عن الزوجة هذه الدرجة الدينية، محتجين بالقول: رغم أنك أثبتي قدرة فائقة على التعلم، ورغم أنك نلت أعلى الدرجات في امتحاناتك النهائية، وفقتي جميع زملائك الذين معك. لكنه وبسبب كونك امرأة، نمنع هذه الدرجة عنك، لعدم حصول ذلك من قبل، إذ لم يسبق أن منحت الحوزة العلمية، لا في كربلاء ولا في النجف ولا في مدارس دينية أخرى مثل هذه الدرجة لامرأة من قبل. لذلك نجد أنفسنا مرغمين بحجبها عنكِ.
عندما كانت هذه المرأة المقدامة تعيش في كربلاء، شاهدت في رؤيا لها وهي تصلي، هيكل شاب لم يسبق لها أن رأته من قبل، يقف أمامها في الهواء عالياً وهو يدعوها للايمان به، وقرأ لها آية أو أكثر سمعتها بكل وضوح. فبقيت هذه الرؤيا تتفاعل في ذهنها ولم تغب كلماته عن ذاكرتها، وعندما استعدت مجموعة علماء المسلمين ممن جئنا على ذكرهم سابقا، للسفر الى ايران، وكان بينهم زوج أختها، كتبت رسالة الى حضرة الباب الذي كان المسلمون يتوقعون ظهوره في هذا الزمان، تعلن فيها أيمانها بأمرة المبارك. وعندما عاد زوج أختها فيما بعد من شيراز الى كربلاء، وكان قد آمن بدعوة الباب، وهو يحمل نسخة من كتاب قيوم الأسماء (تفسير سورة يوسف) وبشارة اعتبارها من ضمن حواريي حضرة الباب الثمانية عشر والمرأة الوحيدة بينهم. أخذت الطاهرة الكتاب من يد زوج أختها بلهفة وأسرعت لقراءته، وكم كان تعجبها شديدا عندما وقعت عينها على تلك الآية التي نطق بها حضرته وهو يقف أمامها في صلاتها مكتوبة بين سطور سور قيوم الأسماء. عندها لم يستطع صدرها المطهر الاحتفاظ بالسر أكثر من ذلك، فأخذت تعلن أيمانها بدعوته وتدعو من حولها للايمان معها. وكانت هذه الشجاعة النادرة المثال في منتصف القرن التاسع عشر، من امرأة لم يسبق لبنات جنسها أن نلن أبسط حقوقهن في مجتمعاتهن الشرقية ولا حتى الغربية، السبب الأول في قيام الناس ورجال الدين والحكومة ضدها، فطردت من المدينة وهي تقذف بالحجارة والأوساخ، بعدما كان بيتها مزارا لهم، وابعدت الى بغداد، وبما أنها كانت من رعايا الدولة الايرانية وتحمل جنسيتها، فلقد انتظر المسؤولين الأتراك جواب استفسارهم بشأن أمرها من الباب العثماني العالي، وخلال هذه الفترة التي دامت أكثر من ثلاثة أشهر، حبست في بيت مفتي بغداد محمود الآلوسي. ولقد شهد العالم النحرير في أحد كتبه بسمو خلقها ورفعة أيمانها وفطنتها وذكائها وشدة أيمانها وتفرغها للصلاة والصوم ليل نهار طوال فترة مكوثها مع عائلته في بيته. في النهاية جاء الفرمان العثماني بضرورة طردها من أرض العراق وإعادتها الى موطنها إيران. فسافرت هذه المرة باحترام كبير وفي موكب مهيب وقافلة طويلة يحفها الرجال الشجعان لحمايتها طوال الطريق. وعند وصولها كان قد سبقها الى زوجها خبر أيمانها، فلم يصدق ما سمعه عنها إلا بعدما أكدته له. في بداية الأمر، راح يناقشها ويجادلها، ثم تطورت الحالة الى الضرب والحبس في غرفتها والتآمر على حياتها لقتلها بدس السم في طعامها شاركه في ذلك والده أخ أبيها. لكن كل ذلك لم ينفع معها، فقد بقيت مؤمنة ثابتة قوية مما دفع بزوجها الى تطليقها وحرمانها من أبنائها. وفي النهاية، بعدما وقعت حادثة الاعتداء على حياة ناصر الدين شاه، كانت من ضمن الرموز البابية المعروفة الذين حكم عليهم بالموت، فخنقت بمنديلها وشالها على يد ضابط سكير في حديقة خارج طهران ورميت جثتها الطاهرة في بئر جافة غير مكتملة حفرت حديثا، ثم أهيل فوق جسدها الطاهر التراب والأحجار.
ومن الجدير بالذكر أنه وقبل الحكم عليها بالقتل، طلب ناصر الدين شاه رؤية هذه المرأة التي ضربت شهرتها عرض البلاد وطولها، فحاول محاورتها وإعادتها الى دين الاسلام، ووعدها بالزواج. لكنها رفضت ذلك بشدة وقرأت عليه سورة الكافرون بصوت عال. فتركها وشأنها.
وبالمناسبة أن لكاتب هذه السطور كتابا يؤرخ سيرة حياة هذه المؤمنة الشابة الشهيدة العالمة الشاعرة البطلة ويتناول مجمل حياتها باختصار مع بعض قصائدها.
ونحن نقترب من نهاية هذا الكتيب، علينا أن لا ننسى تهمة أخرى توجه للبهائيين، خاصة بخيانة يحيى أزل، الأخ غير الشقيق لحضرة بهاء الله. تقول التهمة: كيف يدعو بهاءالله الى توحيد الانسانية، وقد عجز عن استمالة أخيه اليه بعدما نشبت العداوة بينهما؟
وأحب في هذه السطور أن أذكر، انه ليس من الضروري أن يوافق الأهل دعوة أبنائهم في رسالاتهم السماوية، فوالد سيدنا ابراهيم كان ضده، وابن سيدنا نوح قام ضد أبيه، وأهل وقوم سيدنا محمد(ص) اصطفوا لقتله ومحو رسالته، وعلى ما أذكر أن والدة وأخوة سيدنا المسيح(ع) لم يؤمنوا به ووقفوا يتفرجون عليه في معاناته، بل أن جميع أشقاء سيدنا يوسف(ع) قاموا ضده وتآمروا على قتله وسلب حياته. فلماذا تغمض العين عن كل هذه الوقائع التاريخية، ويعتبر كل هؤلاء من رسلاً وأنبياء صادقين دون اعتراض، بينما تسجل معارضة يحيى اللئيم كدليل على عدم صدق دعوة حضرة بهاءالله؟
ومرة أخرى نورد تهمة أو فرية غالبا ما نسمع بها، وهي: لماذا يستند البهائيون في اثبات صحة ديانتهم الى آيات القرآن الكريم؟
والحقيقة أنني كلما جلست استمع لجلسات المناقشة بين البهائيين ورجال الدين المسلمين، اسمع من يقول بهذا الاعتراض، فأقول في نفسي: إذا كانوا لا يقرون بأحقية كتابات حضرة بهاءالله، ويعتبرونها مصدراً غير إلهياً، ويرفضون الاستدلال بالانجيل ويعتبرونه كتابا محرفاً، ويرفضون رفضاً قاطعا ما ورد في التوراة، ولا يقبلون بالمنطق ولا بصوت العقل ويرفضون حرية الكلمة وحرية الرأي والعقيدة والكتابة، كما أنهم لا يقبلون الاستدلال بآيات القرآن الكريم! فيا عجبي! بماذا يريدون مناقشتهم؟ وبماذا يقتنعون؟ وما هو السبيل الى ذلك؟ ومن أين للانسان العاقل الاتيان او الاستعانة بغير هذه المصادر السماوية والانسانية والعقلية والعلمية لاثبات حجته؟ عجبي!! لقد أبدع القرآن الكريم في وصف المعارضين لكل رسول في كثير من آياته، لكن أغلب الناس لا تتعظ حتى من كتبها المقدسة.
وهناك فرية نذكرتها على عجل، وهي مجهولية الديانة البهائية وعدم انتشارها بين الناس رغم تجاوز عمرها القرن ونصف، وأن هذا الانحسار دليل على عدم قدسيتها أو رغبة الناس للاعتقاد بها.
وأحب أن أذكّر القارئ الكريم هنا، أن الديانة المسيحية بقيت في دور الخفاء لمدة ثلاثمائة وخمسة وعشرون عاما، حتى آمن بها الامبراطور الروماني قسطنطين، عندها وبعد هذه المدة الطويلة، بدأت الديانة النصرانية في انتشارها العلني بين الناس. كما ان الديانة الاسلامية بقيت تنتشر بسرعة وخلال بضعة عقود من الزمن في اتجاهات محددة، فبعدما انتشرت في الجزيرة العربية، اتجهت جنوبا الى اليمن، ثم الى الشمال باتجاه الهلال الخصيب وايران، ثم الى مصر وحتى المغرب العربي. لكنها لم تدخل السودان على الضفة الأخرى من البحر ولا الى الحبشة أو الى أواسط أفريقيا إلا بعد عدة قرون، اضافة الى الكثير من دول العالم التي ما تزال غير مؤمنة بهذا الدين السماوي الحق. فهل يمكن اتهام الديانة الاسلامية بالعجز أو عدم قدسيتها اذا نظرنا الى مدى وزمان انتشارها في هذه المناطق والدول؟
وقبل أن نختم هذه الورقيات، تذكرت أولئك الذين يصيحون بأعلى أصواتهم، أننا مرتدون!! وينسون أن معنى كلمة الارتداد، هو العودة الى الوراء. أما نحن فعلى العكس، نحن تقدمنا الى أمام ولم نرجع القهقرى الى الوراء. ثم عليّ بتذكيرهم أن القرآن الكريم، خال من حكم هذه التهمة، رغم كثرة آياته النازلة من سماء الغيب عن الكافرين والمنافقين ومن شابههم. كما أن حكم مثل هذه التهمة لم يصدر عن سيد المرسلين ضد أحد قط، فكم من رجل آمن ثم عاد أدراجه وارتد الى صفوف المشركين قبل فتح مكة ولعدة مرات. فهل حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، على أحد منهم بالقتل عند دخوله مسقط رأسه فاتحاً منتصراً؟ إن هذا الحكم ليس له أساس إلهي، لا في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة الشريفة، لكنه اجتهاد انساني. أما حقيقة مصدره، فهو إجراء اتخذه الخليفة الراشد الأول. واعتقد أننا لن نتفق على الاسباب التي دعته لاصدار هذا الحكم.

في النهاية، وددت القول أنني اكتفي بمثل هذه الردود العقلية والنقلية على هذه المفتريات والدعوات الباطلة، أما من شاء الاطلاع على تعاليم وأوامر ونصائح حضرة بهاءالله ومن قبله حضرة علي محمد الباب، ومن بعدهما حضرة عبد البهاء وسبطه المبجل شوقي أفندي وبيت العدل الأعظم الإلهي، أو على أدبيات الديانة البهائية وأهدافها ومبادئها، فذلك متوفر على قنوات الانترنت بكل وضوح وشفافية.

والسلام على من اتبع الهدى.

السبت، أبريل ١٤، ٢٠٠٧

(حقائق عن البهائية رواية بهائي عربي4 البهائية وفلسطين)

ومن المناسب هنا المرور على حالة مناخ مدينة عكاء في ذلك الزمان، فلقد كانت مدينة قديمة تنتشر فيها الأوساخ والقاذورات الى درجة ان جوّها كان موبوءا بشكل تام. ولقد قيل عنها: أن نتانة رائحتها العفنة تسقط الطير عند طيرانه فوقها. هكذا كانت درجة قذارة هذه المدينة ونتانتها، ولم تبعد السلطات العثمانية حضرة بهاءالله لسجنه داخلها، إلا ليقينها بموته وفنائه فيها، وأنه هالك لا محالة هناك.
كانت الحكومة العثمانية تتخذ مدينة عكاء منفى لعتاة المجرمين وقطاع الطرق، بل وكانت تنقل اليها كل من تشك في ولائه من موظفيها وضباطها العسكريين للتخلص منهم، حيث يهلكون صرعى الأمراض الفتاكة التي تنتشر فيها. فاذا كانت المدينة بهذه القذارة والوساخة والعفونة، فللقارئ الكريم أن يتصور قذارة سجنها وحالته الفظيعة. ولقد خضع البهائيون لهذه الحالة وعايشوا هذا المصير، خاصة وهم يسلمون لأيدي حراس وضباط استلموا أخبار تهم المنفيين والمسجونين قبل وصولهم. وللقارئ أن يتصور أيضا قسوة الحراس والسجانين والقائمين على أمور السجن تجاه مساجين غرباء من غير بلادهم متهمون بالدعوة الى ديانة جديدة بعد الاسلام. فإذا كان المسلمون في هذا القرن يستهجنون ويرفضون ويحاربون هذه الدعوة الإلهية، فلنتصور ما فعله السجانون وأهل المدينة المسلمون بهذه المجموعة من المؤمنين آنذاك، وهم عاجزون بين أيديهم لا حول لهم ولا قوة، ومن دون ناصر أو معين. ففي أول ليلة من وصولهم، أصاب مرض شديد أخوين بهائيين، لم يلبثا أن فارقا الحياة في ذات الليلة، ولم يوافق حراس السجن على دفنهما إلا بعدما أخذا السجادة الوحيدة المفروشة تحت أقدام حضرة بهاءالله ثمنا لذلك، أما بقية المسجونين من الأطفال والنساء والشيوخ وغيرهم، فلقد أصابتهم مختلف الأمراض وعانت أجسادهم من آثارها حتى نهاية حياتهم.
كان دخول حضرة بهاءالله الى مدينة عكاء واستقراره في سجنها في نهاية صيف سنة 1868م، بأمر السلطان العثماني عبد العزيز ومن خلفه الشاهنشاه الايراني ناصر الدين شاه، يساندهما رجال المذهبين الشيعي والسني، قد بعث الأمل في قلوب الجميع بفنائه وفناء دعوته. لكن مساعي ومؤامرات كل هؤلاء بائت بالفشل. فبعد مرور سنتين احتاجت الحكومة العثمانية بناء السجن وثكناته لاغراض عسكرية، فأمرت بنقل حضرته وأفراد عائلته من ذلك السجن النتن الى حبس آخر في بيت سكن عادي صغير داخل المدينة، ومنعت عليه الخروج والاختلاط بالسكان، فبقي على هذه الحال فترة سبع سنوات تقريبا، لاقى من مقاطعة السكان وأذاهم ما لا مجال لذكره في هذه العجالة. وخلال تلك السنوات السبع، كان حكام المدينة وولاتها يتباينون في أخلاقهم بين ظالم متعصب قاس شديد، يضيق على المسجونين الخناق ويسعى لظلمهم، وعادل متسامح ودود يخفف من قيود من سبقه. وفي هذا البيت، الذي دعي فيما بعد باسم صاحبه (بيت عبود)، نزل على حضرة بهاءالله، كتاب أحكام شريعته (الأقدس) ومجموعة كبيرة من السور والأحكام والألواح، ومنها خطاباته الى ملوك وسلاطين وأباطرة العالم، فلقد أرسل رسائله الى ملكة انكلترا، والى نابليون الثالث حفيد نابليون الأول، والى امبراطور بروسيا قيصر المانيا، والى السلطان العثماني، وبابا الفاتيكان وقيصر روسيا، يعلن فيها للجميع، أنه رسول الله لهذا الزمان، وأن بظهوره تحققت جميع الوعود الإلهية السابقة على ألسن جميع المرسلين، كما كان من بينها أيضا، لوحه الشهير ورسالته المعروفة بلوح السلطان ناصر الدين شاه، وفيه يطلب من السلطان توفير الفرصة للقاء علماء الدين الاسلامي لاثبات حجته ومباهلتهم، ويترك له الحكم عليه إذا ما فشل في إثبات دعوته أمامهم. لكن رجال الدين رفضوا ذلك بحجة أنه عدو لدود للدولة والأمة، مما دفع السلطان للرد عليهم بمقولته الشهيرة: أن هذا الأمر متعلق بالدين، فما لكم تربطونه بالسياسة وخيانة الدولة!؟
بعد انقضاء حوالي التسع سنوات، وجد حضرة عبد البهاء الابن الأرشد لحضرة بهاءالله الفرصة سانحة لاستئجار بيت واسع خارج أسوار المدينة ليخصصه سكناً لوالده، لكن حضرته امتنع من الانتقال اليه لأنه ما زال سجينا بأمر السلطان ولا يحق له الخروج من بيته او مدينة سجنه. وكان لموافقته أخيرا قصة طريفة اشترك فيها مفتي مدينة عكاء. وبهذا شاهد وبعد مضي هذه المدة الطويلة ولأول مرة خضرة الأشجار والمروج.
بعد مرور حوالي السنتين، انتقل حضرته مرة أخرى الى بيت كبير تحيط به الحدائق الجميلة، ليعيش فيه بقية حياته التي قاربت الخمس عشر عاما، توفي بعدها عن عمر يناهز السابعة والسبعين عاما، فلقد ولد في عام 1817م وتوفي في سنة 1892م، وبهذا فهو رجل يدرك جسده الموت مثل غيره من بقية خلق الله سبحانه وتعالى، ولا حاجة للفرية القائلة بادعائه الالوهية. وبوفاته ترك خلفه من الآثار والمخطوطات والمكاتيب والألواح والرسائل والسور والكتب والأدعية والمناجات، ما يملأ قرابة مائة مجلد باللغتين العربية والفارسية، ما زالت بتمامها وكمالها موجودة ومحفوظة ومبرمجة على أفلام وأجهزة كومبيوتر وسيديهات ومستنسخة وموزعة في قارات الأرض الخمس، كما ترك على كل ورقة منها ختمه وتوقيعه واسمه واضحاً جلياً حفاظا عليها من التحريف والخلط والضياع.
وبهذا نأتي على الغاية من سرد هذه القصة الطويلة نسبيا والتي دامت أحداثها حوالي الثلاثين عاما منذ خروجه منفيا من بغداد سنة 1863م الى وفاته وصعوده الى رب الأرباب في سنة 1892م. فهو لم يأت الى أرض فلسطين برغبته، انما وصلها منفيا مسجونا بأمر أقوى سلطتين مدنيتين اسلاميتين، الدولة القاجارية الفارسية التي تمثل شيعة المسلمين، والدولة العثمانية التي تمثل سنة المسلمين؛ وهنا لا يسعني إلا ان أذكر أن رجال الدين الشيعة المسلمين وبعد سنوات من صعود حضرة بهاءالله، اكتشفوا بعض النبوءات القديمة، وهي تقول: أن أرض فلسطين ستكون في مستقبل الأيام مستقراً للموعود ولصاحب الزمان. فراعهم ما اكتشفوه، وراحوا يطالبون الحكومة العثمانية بمختلف الوسائل والطرق لنقل رفاتيهما من هذه الأرض الى أرض أخرى، لافساد حقانية هذه النبوءة.
ومن الجدير بالذكر أيضا، أن حضرة عبد البهاء الابن الأرشد لحضرة بهاءالله، أبرق الى الباب العالي العثماني فور وفاة والده، يطلب فيها الاذن منها بدفن والده في ذات أرض مسكنه في ضواحي مدينة عكاء، فجاءه الجواب بالموافقة والقبول. فإن دل هذا على شيء، فانما يدل على شدة التزام الابن بطاعة أوامر شريعة والده في ضرورة تطبيق قوانين الحكومة الخاضع لها. والا لكان باستطاعته إجراء مراسم دفن والده من دون طلب أو انتظار أمر الحكومة بذلك. وبهذا يكون مرقد ومقام حضرة بهاءالله قد وجد وأقيم وشيد بأمر وموافقة الحكومة الاسلامية العثمانية. وبما أن هذا القبر والمكان يعتبر مكانا مقدسا بالنسبة للبهائيين بمختلف جنسياتهم في شتى أنحاء العالم، لذلك فليس من العدل اتهام البهائيين العرب بالعمالة لدولة اسرائيل، خاصة وان هذه الدولة قد انشأت وقامت بعد وفاة حضرة بهاءالله بستة وخمسين سنة تقريبا. فما علاقة هذا القبر وهذه النهاية بإنشاء ووجود دولة اسرائيل؟ ولو فرضنا أن الأمة العربية قد انتصرت في حروبها مع اسرائيل واستعادت أرض فلسطين، أفلا يزور البهائيون اليوم مقامه وقبره في فلسطين العربية المحررة وليس المحتلة؟ ثم ما علاقتنا نحن البهائيون العرب بخسارة الحروب العربية؟ ألم تجيش الدول العربية كل جيوشها وتجمع كل قواها لاستعادة هذه الأرض السليبة؟ على القارئ الكريم التحلي بصفة العدل والانصاف ومخافة الله في حكمه.
إضافة لكل هذا، فنحن نشاهد اليوم إقامة بعض الدول العربية لعلاقات دبلوماسية مع اسرائيل عدوتها التقليدية، وصار بامكان مواطني هذه الحكومات العربية زيارة أرض فلسطين، بل ونشاهد الاسرائيليون وهم يمضون إجازاتهم في الأراضي العربية للاستجمام والسياحة. فلماذا لا يتهم من يقوم بزيارة اسرائيل من رعايا الدول العربية، بالعمالة والجاسوسية؟ أليسوا عربا ومسلمين؟ لكن من تعلو صيحاتهم ضد البهائيين ويعلو صراخهم غاضبين مستنكرين عليهم وجود مراقدهم المقدسة وبناياتهم الادارية في اسرائيل، يغمضون عيونهم عن أنفسهم. ومصيبة هؤلاء أنهم لا يعلمون أن بيت العدل الأعظم، وهو أعلى سلطة دينية وروحية عند البهائيين في العالم، موجود حاليا في فلسطين في مدينة حيفا، وانه قد أصدر أمراً حاسما بعدم قيام أي بهائي عربي بزيارة أرض فلسطين، درءاً من اتهامهم بمثل هذه المفتريات. وبذلك لا يوجد على الاطلاق عربي بهائي قد زار فلسطين منذ قيام الدولة الاسرائيلية رغم قيام بقية مواطنيهم بذلك. ومع كل هذه الحيطة والحذر من جانب البهائيين، ما زال هناك بعض الجاهلين بحقيقة الأمور يتهمونهم بذلك.!
إن للبهائيين من أصول عربية او اسلامية حالة ووضعية خاصة ينفردون بها عن غيرهم من بقية بهائيي العالم، فكما قلنا، يمنع عليهم منعا باتا زيارة أرض فلسطين المحتلة، أما اذا تجرأ أحد منهم (رغم أنه لم يسبق وان حصل) وقام برغبته الخاصة بزيارة الأرض المحتلة سراً أو علناً، أو لسبب من الاسباب، إن كان للعمل أو التجارة أو العلاج أو الدراسة او غير ذلك، فمهما كان السبب ضروريا، فلبيت العدل كل الحق في انزال عقوبة فصله وإبعاده عن جامعة البهائيين.
لذا فالبهائي يمتثل لتطبيق أوامر دينه ولا يخالفها، طالما أنه وافق برغبته الخضوع لها. أما إذا لم يشأ الالتزام بها، وأراد مخالفتها، فليس هناك ما يجبره على البقاء. وبهذا لا يعد هناك موجب لبقائه منتسبا لها، ومن السهل عليه الاعلان والتصريح برغبته في الخروج والابتعاد عن جامعته.
ومن الجدير بالذكر أن الديانة البهائية لا تفرض ولا تقضي بأي شروط عند الانضمام اليها، سوى الايمان برسالة حضرة بهاءالله والايمان بجميع الأديان والشرائع السماوية السابقة وبرسلها ومقدساتها. كما أنها لا تفرض أي نوع من الشروط أو العقوبات على من يشاء الخروج منها، فالناس أحرار في اعتناقها او تركها ورفضها والابتعاد عنها.
ويذكرني هذا الموضوع بمسألة امتناع البهائيين عن حمل السلاح أو القتال، وهي تهمة طالما سمعنا بها. في الحقيقة أن هناك فرق كبير بين الحالتين، التبس أمرهما حتى على بعض البهائيين العرب. فالأوامر البهائية تمنع البهائي من حمل السلاح الشخصي أو الاحتفاظ به في بيته أو استعماله للدفاع عن نفسه أو أخذ حقه بيده، وتأمره باللجوء الى السلطات ومراكز الشرطة لرد الظلم عنه حفاظا على النظام العام لبلده. أما إذا صدر الأمر من حكومته بضرورة حمل السلاح للدفاع عن وطنه، فهنا يكون من واجبه الوطني والديني المشاركة الفعلية في حماية وطنه، خاصة وحضرة عبد البهاء يتفضل في هذا الخصوص: كل خيانة تغتفر إلا خيانة الوطن. أما اذا اعترض أحد، وقال أن هناك من البهائيين من يؤكد بعدم حمل السلاح والقتال لحماية الوطن، فهذا الرأي يعتبر من الآراء الخاطئة للبعض منهم، ويجانب الصواب والأدبيات والأوامر البهائية. ومرجع هذا الرأي الخاطئ، هو ندرة وقلة الأدبيات والكتب البهائية المتوفرة بين أيدي العرب منهم، وذلك بسبب كثرة ما صودر وأحرق منها من قبل بعض الحكومات العربية في العراق ومصر وسوريا وغيرها، وبهذه المصادرة للآثار البهائية، وللضغوط القسرية المشددة من قبل بعض الحكومات العربية تجاه نشاطهم وما فرضته من قيود لعزلهم عن بقية الجامعات البهائية في العالم، ونتيجة لإصدار القرارات الحكومية التي تهددهم بالاعدام أو السجن المؤبد اذا ما ثبت عليهم أي نشاط بهائي، كالتبليغ أو النشر، كل هذا وغيره سبب بين البهائيين شحة في الوصول وقلة في الاطلاع على دقائق أوامر دينهم، وبذلك لا يستبعد أن يختلف البهائيون العرب في رأي أو معلومة دقيقة، أو أن يقول أحدهم برأي خاطئ. وأكبر دليل على ذلك، ما حصل في الحرب العراقية الايرانية. فعندما نشبت هذه الحرب، ساهم الشباب والرجال البهائيون في هذه الحرب على الجانبين، وحملوا السلاح وقاتلوا، بل وقتل عدد منهم ما زلت أذكر أسمائهم حتى اليوم باعتبارهم كانوا رفاق طفولتي ومن جيلي وفي سني تقريبا. أما النقطة المهمة التي يجب توضيحها في هذه المسألة، فهي أن على البهائي عندما يفرض عليه الواجب الوطني المشاركة في القتال وحمل السلاح واطلاق النار لحماية وطنه، أن يحاول جاهداً توضيح مبادئه الداعية للسلام وعدم القتال، ويطلب من الضابط المسؤول عنه إعفائه من القتال أو حمل السلاح ونقله الى أي موقع آخر في الخطوط الخلفية، كقسم الطبابة أو الهندسة أو المطابخ أو النقليات أو غير ذلك من المواقع البعيدة عن القتال، فإذا لم يقتنع الضابط المسؤول برأي البهائي، وأصر على مشاركته في القتال، فلا يجب عليه سوى حمل السلاح والقتال من دون مجادلة.
أما عن فرية مساندة الامبراطورية البريطانية للديانة البهائية وزرعها داخل الجسد العربي والاسلامي، فلهذه التهمة قصة أخرى نختصرها بالتالي: في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، كانت أحوال العالم تنذر بنشوب حرب عالمية، ولفطنة حضرة عبد البهاء وذكائه، أدرك أن أحوال الناس في فلسطين العربية ستسوء وأن طرق السفر والاتصالات ستنقطع. ولقـد حصل ذلك بالفعل، فلم تمض أشهر معدودة على نشوب الحرب العالمية، حتى وقع أهل فلسطين في كرب وبلاء وجوع، وشحت موارد الطعام وجاعت الناس وساءت أحوالهم وعمَّ الكساد والقحط بين الجميع. لكن حضرة عبد البهاء كان قد احتاط لذلك من قبل، حيث أوصى البهائيين في فلسطين بتخزين حبوب القمح والشعير وبكميات كبيرة جدا في مخازن حفرت في أراضيهم بطريقة فنية أبقتها سليمة وبحالة جيدة لسنين طويلة. وعندما جاعت الناس وراحوا يبحثون عن الطعام في كل مكان، بدأ حضرته في تنظيم عملية توزيع هذه المخزونات الغذائية على المحتاجين والفقراء طوال فترة الحرب، مما ساعد في المحافظة على حياة العوائل والأطفـال وإبقائهم على قيد الحياة، وبما أن أرض فلسطين وقعت تحت الحكم البريطاني بعدما انسحب الجيوش العثمانية منها، فلقد شاهد البريطانيون طوال فترة الحرب، ما كان يفعله البهائيون بقيادة حضرة عبد البهاء من مساعدة للاهالي بمختلف أديانهم في سد جوع بطونهم، ومكافأة لهذه الأعمـال الانسانية الطيبة التي عرف بها شعب فلسطين في طول البلاد وعرضها، والتي تأمر بها جميع الشرائع السماوية، قدمت الحكومة البريطانية لحضرته كامل الاحترام والتقدير بعد انتهاء سنين الحرب، حتى أن القائد البريطاني في فلسطين آنذاك، أوصى حكومته بتقليده لقب فارس (سير)، وكان له ذلك، إلا أن حضرته لم يستعمل هذا اللقب أبدا، بل ولا يعرف بعض البهائيين بهذا الأمر. فهل كانت أعمال حضرة عبد البهاء تقتضي مكافئته بغير هذا؟ أم العكس؟
ومن التهم والمفتريات الخطيرة الأخرى، تهمة إرسال الأموال الى دولة اسرائيل. وهذه تهمة لو صحت وثبتت على أحد منا، لما عاش أكثر من دقائق قليلة. فما قصة هذه الأموال ومن الذي يرسلها ومن يستلمها وكيف يحصل ذلك، وهل لهذا الموضوع أصل أو وجود؟
يعلم جميع الموحدين في الأرض، أن الله سبحانه وتعالى، شرّع في جميع كتبه وشرائعه المنزلة، حكم حقوق الله وحكم الزكاة والتبرعات والأوقاف والتكافل ومساعدة الفقراء، ولم يخل دين من الأديان السماوية ولا شريعة من الشرائع الربانية، إلا وكان فيهما هذا الواجب الانساني والحكم الإلهي. ومن المعلوم أن الشريعة الاسلامية لم تستثن من هذا الحكم، فنجده واضحا صريحا في نصوص آياتها وسنتها. وعندما نعلم ان رجال الدين في أكبر مذهبين في الديانة الاسلامية، وهما المذهب الشيعي ومقره الروحاني والاداري في مدينة النجف الأشرف في العراق، والمذهب السني ومقره الروحاني والاداري في الأزهر الشريف في مصر، يستلمان فريضة الخمس على الأرباح والزكاة من أموال المسلمين وما يقدم من تبرعات باسم الدين والشرع. فهل يمكن الإدعاء أو اتهام أتباع المذهبين في جميع دول العالم على أنهم عملاء للعراق أو لمصر، وزجهم في السجون ومنعهم من إرسال زكاتهم وتبرعاتهم؟
وهناك مثال آخر، فمن المعلوم أن المرجع الأعلى لغالبية النصارى، قائم في كنيسة الفاتيكان داخل مدينة روما في ايطاليا، فهل يمكن اتهام العرب النصارى بالعمالة والجاسوسية لايطاليا، بل هل يجوز لبقية دول العالم اتهام مواطنيها بالعمالة الى هذه الدولة؟ ولماذا لا توجه السلطة الأمريكية او الانكليزية أو المصرية أو العراقية الى مواطنيها النصارى تهمة العمالة الى هذا البلد الأجنبي؟

الخميس، أبريل ٠٥، ٢٠٠٧

حقائق عن البهائية رواية بهائي عربي 3(استكمال بعض التهم الجائره)

وهناك كلمة أخيرة في الرد على هذه التهمة والفرية الأخلاقية الخطيرة، فأقول: هل تأمَّل أو فكَّر أحد من أين جاء أصل حكم هذه المحرمات ومتى نزلت على الرسل الكرام؟ فقد يظن الكثيرون أن أصلها ابتدأ بظهور شريعة الاسلام فقط، وقد شرعها سبحانه وتعالى لأول مرة في كتاب القرآن العزيز، وبذلك كانت هذه هي البداية للمحرمات والعمل بها.
لكننا لو نظرنا الى أمة النصارى نجدهم يلتزمون بجميع هذه المحرمات من قبل ظهور دين الاسلام، فلا نجد بينهم من يتزوج أخته أو ابنته او أمه أو عمته أو خالته أو بنات أخيه او بنات أخته، بل ويزيدون على كل ذلك بعدم الزواج من الأقارب تحسينا لنوعية الجنس البشري، بينما لا نجد هذا العرف الأخير بين العرب أو المسلمين، فهم على العكس من ذلك، يفضلون الزواج من الأقارب وعلى الخصوص من بنات العم والخال أو العمة أو الخالة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، لو عدنا الى مكان ظهور الديانة الاسلامية، فكلنا يعلم أنها ظهرت بين العرب المشركين في الجزيرة العربية، وعندما نقرأ كتب تاريخ العرب المشركين وعاداتهم وتقاليدهم، نجد أنهم كانوا لا يتزوجون من ذات المحرمات الاسلامية المنصوصة ولا يقربونها، فلم يكن الرجل العربي قبل الاسلام يتزوج أمه أو أخته أو ابنته وكذلك لا يقترن بعمته أو خالته أو بنات أخيه أو أخته، وبهذا نجد أن ذات المحرمات الاسلامية، كانت موجودة لدى عرب الجاهلية المشركين. فهل يمكن القول ان الله سبحانه وتعالى قد أخذ بسنة وعادات وتقاليد الجاهلية أو العرب المشركين ولم يجد أفضل منها ليشرعها نصوصا وأحكاما في كتابه العزيز؟ ألم يكن سبحانه وتعالى قادرا على تغيير ذلك ولو بالحذف أو الاضافة؟ وهل يمكن اتهام المسلمين ان أصل محرماتهم جاءت من العرب المشركين؟ أعوذ بالله من غضب الله.
ويحضرني في هذا المجال أن أذكر ما حصل منذ عهد قريب عندما بدأت الأفكار الشيوعية في الانتشار داخل الوطن العربي في منتصف القرن الماضي، فلقد كانت أفكارا ومبادئ قوية مقنعة للكثيرين حاولت الأخذ بيد الفقير والضعيف، فأعجزت السلطات المدنية والدينية عن وقف انتشارها. لكن العاجزين لما لم يجدوا سبيلا لوقفها، راحوا ينشرون عنها ذات الاتهامات الباطلة بين الناس، وقالوا أن هؤلاء يحللون العلاقات المحرمة ويتبادلون الزوجات والأخوات ويقيمون الحفلات الماجنة فيما بينهم. ومع ذلك لم ينجحوا كثيرا في مسعاهم، فلقد انتشر الفكر الماركسي والشيوعي بين الشباب العربي بشكل واسع أقلق مضاجع المسؤولين آنذاك.
إنهم خبراء في إطلاق التهم المخيفة المغرضة تجاه غيرهم. فيا عجي!!
نعود الى تهمة وفرية العمالة والجاسوسية لاسرائيل التي يتهم بها البهائيون قاطبة رجالا ونساءً أطفالاً وشيوخاً كباراً وصغاراً في العالم العربي فقط دون بقية دول العالم! فنقول: هل سبق وثبت على أحد منهم مثل هذه التهمة الشنيعة؟ وكم عدد الخلايا أو المنظمات أو المجموعات التي تجسست لصالح اسرائيل في الوطن العربي مثل العراق ومصر وسوريا وغيرها؟ فلماذا لم تجد السلطات العربية وحكوماتها أثرا بسيطا أو دليلا صغيرا على ذلك، رغم أن البهائيون يعيشون بين العرب والمسلمين منذ أكثر من قرن ونصف؟ ثم كيف غفلت عيون أقرباء البهائيين وعوائلهم وأصدقائهم وزملائهم من المسلمين عن تحركات خطيرة مشبوهة مثل هذه؟ هل أن رجال الأمن والمخابرات العربية والاسلامية بهذه الدرجة من الغباء والسذاجة وعدم الخبرة بحيث يعجزون عن اثبات هذه التهمة الخطيرة حتى على فرد بهائي واحد! وهم يعيشون بينهم تحت المراقبة الدائمة بعد سماعهم كل هذه التهم الشنيعة عنهم؟ ولماذا يتركوهم يفعلون ذلك؟
قبل عدة سنوات، قامت الحكومة المصرية يساندها رجال الدين الاسلامي ضد هذه الفئة المظلومة واعتقلت مجاميع من الرجال والنساء البهائيين لعدة مرات بتهمة الجاسوسية والعمالة لمجرد الارتياب والشك بهم، لكنهم كانوا في كل مرة يطلقون سراحهم بعدما لا يجدون دليلا صغيرا على ذلك، ومنها ما حصل من اعتقالات في زمن المرحوم الراحل جمال عبد الناصر، ونحن لا نكن لذلك الرجل أي درجة من الحقد أو الازدراء أو قلة الاحترام، بل بالعكس، فالرجل كان وطنيا وقوميا عربيا من الدرجة الأولى، وكان في حالة عداء وحرب مع دولة اسرائيل لما تفرضه عليه مبادئه القومية والدينية، لذلك كان من الطبيعي أن يبدأ مهامه الحكومية بتنظيف بيت وطنه ومجتمعه من كل دخيل أو خائن، ليحمي ظهره ويتفرغ لعدوه، فما كان منه إلا أن قام باعتقال مجموعة من البهائيين بعدما سمع عنهم من تهم باطلة، واستمر التحقيق لفترة من الوقت، أطلق سراحهم بعدها ليعودوا الى بيوتهم وأعمالهم ومدارسهم، لكن الرجل وخوفا وحذراً من أن يكون على خطأ في إعطائهم حريتهم، أمر بمنع نشاطهم وقطع اجتماعاتهم وإغلاق مراكزهم الروحية والإدارية، فأغلقت محافلهم وشمعت بالشمع الأحمر حظائرهم القدسية، حتى أنه أمر بحذف كل ما يشير الى فكرة ظهور المهدي المنتظر من المناهج الدراسية المصرية. ومع كل ذلك، لم يعترض او يعلو صوت البهائيين تجاه هذه الأحكام الجائرة، ليس في مصر فحسب، بل وفي جميع أنحاء العالم العربي، كالعراق في زمن أحمد حسن البكر عندما أمر بحبس أكثر من أربعين رجلا وامرأة حبساً مؤبداً في سجن أبو غريب وسجن الفضيلية، ثم أطلق سراحهم بعد أن أمضوا زهاء السبع سنوات من محكوميتهم. أو عندما حظر النشاط البهائي في سوريا في زمن حافظ الأسد، أو في المغرب في زمن الملك الراحل محمد الخامس عندما حكم بالاعدام على ثلاثة منهم. بل لم يقتصر الأمر على هذه البلدان العربية فقط، إذ تعداها الى غيرها من الدول العربية عندما حظرت نشاطهم ولو بصور وطرق أخرى تباينت في شدتها ومسامحتها. لكن البهائيين في جميع هذه الدول، سكتوا على مضض تجاه ما صدر بحقهم من هذه الأحكام، امتثالا لأمر دينهم وحكوماتهم، واعتبروا ما حصل من باب الخطأ والحكم الظالم غير المتعمد، وأنه لابد وان يأتي اليوم الذي تظهر فيه برائتهم ناصعة بيضاء من غير سوء. ومن الجدير بالذكر أن أوامر الديانة البهائية تقضي على أتباعها إطاعة أحكام وأوامر الحكومة الوطنية او حكومة بلد الاقامة دون أي اعتراض، أما إذا زاد الأمر عن حده، واقتضت الضرورة للمطالبة بحقوقهم، فلا يجوز عليهم سوى اللجوء الى القضاء والقانون أو الى المحاكم ومراكز الشرطة لاسترجاع الحقوق حسب أمر القانون.
ومن التهم المقيتة الأخرى التي تمتد جذورها لتتصل بالتهمة السابقة، أن مقامات البهائيين المقدسة موجودة في اسرائيل، الدولة العدوة اللدود للأمة العربية، وهنا تختلط التهمة بين دينية وسياسية، واليكم الموضوع باختصار شديد: بعدما انتشر خبر وصول حضرة بهاءالله الى بغداد في أوائل سنة 1853م واستقراره فيها بين القلة القليلة المتبقية من أتباع الباب الناجين من المذابح العامة، حيث كان البعض منهم قد اختبأ في سواقي المياه أو الجداول والترع وفي فتحات التهوية بين جدران المنازل أو في الخرائب النائية، حفاظاً على حياتهم، أو من استطاع الهرب الى المدن او القرى البعيدة أو من هام على وجهه في البراري والقفار أو من لبس لباس الدراويش وغيّر هيئته وهام على وجهه في الجبال والوديان والسهول تاركين أهليهم وعوائلهم طعمة للسيف وألسنة النيران أو الطمر تحت جدران بيوتهم التي هدمت على رؤوسهم أو أحرقت بساكنيها.
ونتيجة لسماع خبر وصوله الى بغداد، ولمعرفة كبار شخصيات البابيين بمنزلته الاجتماعية والدينية بينهم، بدءوا بالتسلل فرادى وجماعات صغيرة متوجهين الى بغداد، وهناك استقر بهم المقام في منازل بسيطة استأجروها جماعات ليستمتعوا بصحبة ورؤية حضرة بهاءالله الذي كان يسكن في محلة الشيخ بشار في منطقة الكرخ قرب جسر بغداد العتيق، حيث عاش قرابة العشر سنوات مع عائلته التي اصطحبها معه في سفره. ولم تكن أحوال البابيين القادمين تسر حضرته، فلقد بدأ الفقر والضعف والوهن يدب فيهم، خاصة والكثير منهم كان يظن ان حضرة علي محمد الباب (المهدي المنتظر) لن يقتل بهذه السرعة والسهولة، بعد أن انتظره المسلمون الشيعة لألف سنة بالتمام والكمال، ولقد فتتت هذه الفكرة المثبطة للعزائم من عضد تماسكهم، وبدأ أيمان البعض منهم يفتر، بل وارتد البعض منهم الى دينه القديم، لذلك قام حضرته بدور الراعي والمنشط والمثير للهمم، فشد من عزيمتهم وقوى أيمانهم وأعاد الأمل الى قلوبهم، تارة بالخطاب والكلام واللقاءات المباشرة ومرة بالنصائح والقدوة الحسنة وأخرى بما نزل عليه خلال تلك السنوات العشر من الكتب والألواح والسور المباركة، وكان يمليها على بعض خواصه ومن ضمنهم ولده البكر الشاب حضرة عبد البهاء ليكتبوها ويدونوها ويجمعوها في كتب متعددة اتخذ كل كتاب منها اسما معينا، كالايقان والكلمات المكنونة وسورة الصبر وسورة الهيكل إضافة الى العديد من الألواح والصحف والسور الأخرى. ومن الجدير بالذكر هنا أن نشير الى أن حضرة بهاءالله لم يدخل المدارس أو الجامعات للتعلم إلا على مستوى تعلم مبادئ القراءة الكتابة او ما يسمى (بفك الخط) في الكتاتيب، حيث كان العرف السائد بين أمراء الامبراطورية الفارسية آنذاك، هو عدم الاهتمام بأمور التعليم، لأن درجة الامارة أو المناصب الادارية العالية كانت تنتقل بالوراثة من الأب الى الابن دون النظر الى المستويات العلمية أو الثقافية.
ولما كان العراق آنذاك تابعا للسلطة العثمانية وتحت ولايتها، تنعم البابيون وعلى رأسهم بهاءالله، بشيء من الراحة والأمان والطمأنينة نتيجة عجز السلطات الايرانية عن النيل منهم. لكن الأمر لم يكن بهذا الهدوء، فلقد كانت جمرة الحقد ما تزال مدفونة في نفوس الحاقدين والمغرضين، حيث كان للحكومة القاجارية الفارسية كما تقتضي العلاقات الدولية، سفارة في بغداد، وليس بسرٍ يذاع، أن من أحد مهام هذه السفارات أو القنصليات الاطلاع على شؤون البلد الموجودة فيه ونقل تقاريرها الى وزارة خارجيتها. ولما كان الاضطراب الذي حصل بين الناس في ايران نتيجة ظهور حضرة الباب ضخما وآثاره ما زالت طرية في ذاكرة الناس، بل وما زالت الحكومة القاجارية حتى ذلك الوقت تلاحق البابيين في أرض ايران ممن لم تسنح لهم فرصة الهروب أو المهاجرة الى العراق، فتقوم على تعذيبهم واستخلاص المعلومات منهم عن بقية البابيين المتواجدين داخل أرضها ثم تعذبهم وتقتلهم. وصل علم السفير الايراني في بغداد من خلال عيون جواسيسه المنتشرين فيها، وهي مدينة كانت صغيرة لم يزد عدد سكانها آنذاك عن الخمسين ألف نسمة، أن عدد البابيين بدأ يزداد في بغداد حتى تجاوز بضعة آلاف، وأن عدد أتباع حضرة بهاءالله ومناصريه قد كثر، وأنه ما يزال يعقد الاجتماعات والجلسات معهم في بيته وفي بيوت غيره من البهائيين أو في البساتين المحيطة بالمدينة، ومن الوارد جدا أن يشكل وجماعته خطرا جديدا على الدولة الفارسية، لذلك نصح السفير الايراني حكومته بتقديم طلب رسمي الى الحكومة العثمانية من خلال سفيرها في طهران، لإبعاد بهاءالله وأتباعه من العراق، باعتبار أن هذا البلد ملاصقا لحدود دولة ايران. ولما لم تستجب الدولة العثمانية لطلب الدولة الفارسية، راحت حكومة ايران تخاطب سفيرها في استنبول للمشاركة من جانبه في نجاح هذه المؤامرة، باعتباره قريبا من الباب العالي في استنبول. ولقد نجح كل من السفيرين الايرانيين في بغداد واستنبول ووزارة الخارجية الايرانية في تحقيق هدفهم المشترك بعد عمل حثيث دام عدة سنوات، فما كان من الباب العالي إلا أن استجاب لطلبهم، وأرسل فرمانا سلطانيا الى والي بغداد نامق باشا، يأمره فيه بوجوب ترحيل بهاءالله وعائلته وبعض الخواص من أتباعه الى استنبول، فكان ذلك بعد تمام انقضاء عشر سنوات على سكنه فيها. فشد حضرة بهاءالله الرحال في اليوم الواحد والعشرون من شهر ابريل وخرج من بيته ليعبر نهر دجلة من جانبه الغربي الى الجانب الشرقي وليقيم اثنى عشر يوما في حديقة النجيبية (الرضوان) على ضفة النهر ويعلن دعوته سراً للخواص من أصحابه وأتباعه، ثم شد الرحال مرة أخرى متوجها الى عاصمة الخلافة العثمانية استنبول، ودامت سفرته مائة يوم تقريبا. لم يكتف السفيرين الايرانيين ولا حكومتهما بكل هذا، ففي هذه الأثناء، وبعد نجاح مساعيهما المغرضة في تحقيق المرحلة الأولى من مهمتهم، راح السفير الايراني في استنبول يروج الأكاذيب والمفتريات عن حضرة بهاءالله بين أفرد الحكومة العثمانية قبل وصوله اليها، ولم يترك فرية أو تهمة إلا وألصقها به وبدعوته، ولم يترك رذيلة إلا ونسبها اليه والى أتباعه، خاصة بين السياسيين وكبار رجال الدين الاسلامي، ولقد لقي كل ذلك صدى واسعا وآذانا صاغية بين الجاهلين للحقيقة. وعند وصول حضرة بهاءالله وعائلته وأصحابه الى استنبول، وجد الأفكار مشوشة ومرتابة بشأنه. ففي أول وصوله خصصت الحكومة العثمانية له ولأفراد عائلته سكنا ضيقا حقيرا وكانوا أكثر من سبعين نفرا، وبعد مطالبته بتحسين ظروف معيشتهم، نقلوه ومن معه الى مسكن آخر أوسع قليلا من سابقه، لكنهم خصصوا له ضابطا في الجيش ليقوم في الظاهر على مرافقته وتلبية حاجاته الضرورية، وفي نفس الوقت، ليتجسس عليه في الخفاء. وبمرور الوقت وجد حضرة بهاءالله ان الأفكار والوجوه والقلوب لا تكن له غير الريبة والكراهية والحقد. وحصل أن وصله الفرمان السلطاني يأمره بالمثول في محضر السلطان عبد العزيز للزيارة والتعارف، فأجاب حضرته أنه لا يزور الملوك أو السلاطين في بلاطهم، ولكن ليختر السلطان مكانا مناسبا للقاء، واقترح أحد المساجد الاسلامية لذلك. فما كان من السلطان عند سماعه بهذا الجواب الصارم الجريء، إلا أن تفجر بركان الغضب في صدره، وتطايرت شرارات الحقد في كل اتجاه، وأيقن أن كل ما سمعه من السفير الايراني ومن شايعه تجاه هذا الرجل المنفي كان صحيحا. فأصدر على الفور فرمانه الجديد القاضي بنفيه مرة أخرى دون لقائه ومن معه الى مدينة أدرنه في أقاصي حدود الدولة العثمانية الغربية. فسافر حضرة بهاءالله مخفوراً للمرة الثالثة منفيا في رحلة دامت اثنى عشر يوما من أيام شتاء عام 1863م القارس البرد.
بسكنه في مدينة أدرنه، ووصول خبره الى البابيين في ايران والعراق، بدأ البابيون في السفر لزيارته أفرادا وجماعات، ولما لم يكن هناك طريقا الى مدينة أدرنه إلا باختراق مدينة استنبول وعبرها، بدأ أفراد الشرطة والجواسيس يشاهدون أزياء غريبة تختلف عما اعتادوا مشاهدته بين سكان المدينة، وبعد التحري علموا أنهم ايرانيون في طريقهم لزيارة بهاءالله في أدرنه.
ومن الجدير بالذكر أن حضرة بهاءالله، بعدما أعلن دعوته بشكل سري وخاص في حديقة الرضوان للخواص من أتباعه، عاد ليعلنها لعموم البابيين في ايران والعراق على الخصوص من هذه المدينة النائية، بعد حوالي السنتين من وصوله اليها، وأوضح لهم أنه هو الموعود الذي بشَّر به الرسول الشاب الشهيد حضرة الباب (علي محمد)، ومن قبله رسل الله الكرام. فكانت لاقامته في مدينة أدرنه لمدة أربع سنوات تقريبا، السبب المباشر لتقاطر البابيين وغيرهم من المؤمنين الجدد اليها. وبهذا كانت مناظرهم وأشكالهم وهم بملابسهم الايرانية الغريبة سببا في اثارة تحفظ الحكومة وريبتها. وهنا لابد من الاتيان على ذكر أعمال أخ حضرة بهاءالله، وهو الأخ غير الشقيق له، واسمه يحيى، ويلقب بصبح أزل. فعندما شاهد يحيى أن أخيه الموقر، كان على الدوام موضع احترام وتقدير كل من تعرف عليه، وأنه عاد ليصبح شخصاً نكرة، تأججت نيران الحسد والحقد في صدره تجاه أخيه، وراح يتآمر على حياته، فقام بتسميم غذائه، ثم بدأ يحيك ضده المؤامرات ويرتكب الأعمال القبيحة وينسبها الى أخيه المبجل، مما أوقع الشك حتى في صدور أقرب المقربين من حضرته، ولم تنته هذه المشاكل التي بدأت بشكل سري وبذرت بذورها منذ أيام بغداد، ثم نضجت ثمارها الفاسدة لتظهر للعيان في مدينة أدرنه، إلا باعلان حضرة بهاءالله دعوته بكامل الوضوح لجميع اتباعه، وبذلك أوقعهم في امتحان كبير، فانقسموا الى فريقين، اصطف غالبيتهم حوله لمناصرته وتأييده، بينما فضلت فئة صغيرة منهم مناصرة أخيه. كل هذا وذاك دفع الحكومة العثمانية الى اصدار فرمان سلطاني جديد يقضي بنفي حضرة بهاءالله وأفراد عائلته للمرة الرابعة، وسجنه في أقسى وأنتن سجون الامبراطورية العثمانية وأبعدها، ألا وهو سجن (القشلة العسكرية) في فلسطين في مدينة عكاء. كما أمرت بنفي صبح أزل وأتباعه، وكانوا قليلي العدد الى جزيرة قبرص. من هذا نعلم أن حضرة بهاءالله لم يأت برغبته الى فلسطين، بل جاءها سجيناً منفياً بأمر السلطان عبد العزيز العثماني.

الثلاثاء، أبريل ٠٣، ٢٠٠٧

حقائق عن البهائية رواية بهائي عربي 2(بعض التهم الجائره)

كان هناك شرط مقرون بأمر الإفراج عن حضرة بهاءالله، وهو حتمية تركه الأراضي الايرانية مجبرا منفيا والمغادرة الى بلد آخر، وهنا عرضت عليه السفارة الروسية حال سماعها بالحكم، اللجوء الى دولة روسيا والتمتع بجنسيتها. لكن حضرة بهاءالله، فضل بحكمته البالغة التوجه الى أرض العراق العربي، رغم شدة مرضه جراء ما عاناه من تعب وارهاق شديدين ومكوثه في ذلك الجو الموبوء في تلك الحفرة النتنة. فلم يمض أكثر من شهر على إطلاق سراحه المشروط، حتى غادر أرض ايران في شتاء عامي 1852-1853م القارس البرد وهو بصحبة أفراد عائلته متوجها الى العراق الذي كان خاضعا آنذاك لحكم الدولة العثمانية، وبذلك نجى من قتل محقق رغم تضافر جهود السلطتين المدنية والدينية على محوه وفناءه.
هذا جواب مختصر تجاه أمر التهمة الموجهة ضد حضرة بهاءالله وأتباعه البهائيين بخصوص مساعدة الامبراطورية الروسية لهما، وليصدق من يصدق وليكذب من يشاء، فسجلات التاريخ الايراني وكتب التاريخ البهائية تشهد بصحة هذه الواقعة.
وهناك تهمة بغيضة أخرى تقول أن حضرة علي محمد الباب وحضرة بهاءالله، كانا قد درسا الى مستويات تعليمية عالية، ودليل ذلك كثرة كتبهما باللغتين العربية والفارسية. ومن الجدير بالذكر هنا أن نتذكر أن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وسيدنا المسيح(ع) ومن ظهر قبلهما من الرسل الكرام، كانوا أميين لا يحسنون القراءة أو الكتابة، فلماذا نستنكر على هذين الرسولين الكريمين صفة الأمية؟
ونسمع كذلك بين الفينة والأخرى، أن كتابات وتعاليم البهائية مزيج من تعاليم الأديان القديمة وخاصة الديانة الاسلامية، وهذا ليس أمراً مستغرباً أو بالجديد على الشرائع الإلهية السابقة، فما زلنا نسمع حتى اليوم، وحتى من بعض المثقفين المسلمين، أن سيدنا محمد(ص) كان يعرف القراءة والكتابة، هذا بالإضافة الى ما قيل عن تعلمه على يد بعض أحبار اليهود أو النصراني مثل ورقة بن نوفل، أو اكتسابه بعض المعارف والعلوم من خلال سفراته التجارية التي قام بها الى الشام أو ربما الى اليمن عندما كان صغير السن. كما أن هناك نسبة من المتعلمين العرب في هذا اليوم، لا يؤمنون بأميته ويرفضون تصديق ذلك بعدما ثبتت قدرته الاعجازية العظيمة على القيادة المتميزة لأتباعه وتحويلهم من شراذم متفرقة الى أمة ذات شأن عظيم، ونشره لمبادئ سامية بين أقوام لم يكونوا يعرفون من دنياهم غير جمع المال ومعاقرة الخمر والنساء والتطاحن والغزوات، بحيث جعل منهم وخلال بضعة سنوات أمة تفتخر بتعاليمها الانسانية والسماوية بين بقية الأمم، وخير دليل على بطلان هذه التهمة تجاه سيد المرسلين، وأقصد بها اقتباسه معلومات عن بقية الأديان والأمم القديمة، ما يقرأ في القرآن الكريم عن قصة سيدنا عيسى(ع) المخالفة بتفاصيلها لما تناقله وحفظه النصارى عن تاريخ رسولهم لأكثر من ستة قرون، حيث يقول النصارى بحصول عملية الصلب، بينما يقول القرآن الكريم بغير ذلك، فلو كان سيدنا محمد(ص) قد اقتبس معلوماته من النصارى، لكان أيدهم فيما يقولونه عن حادثة الصلب، هذا بالإضافة الى ما جاء في القرآن الكريم من قصص الأنبياء القدامى التي تختلف في بعض جوانبها عما ورد في التوراة القديم. لذلك فهذه التهمة (تهمة الاقتباس) من الكتب السماوية او الوضعية السابقة أو من تاريخ الأمم القديمة وتراثها، هي تهمة لم يسلم منها بقية الرسل والأنبياء عموما، فلماذا يسلم منها حضرة بهاءالله؟ أما اذا تذكرنا شريعة الانجيل وعلمنا أنها خالية من الأحكام الوضعية واقتصار تعاليمها على الأمور الروحية والأخلاقية وبالتالي اعتماد النصارى في تمشية أمور مجتمعاتهم على الشريعة السابقة (أحكام التوراة)، لوجدنا أن هذه التهمة تنطبق انطباقا تاما على سيدنا عيسى(ع). فهل يمكن اتهامه بأنه ليس رسولا من عند الله، وقد صدق دعوته القرآن الكريم فيما بعد؟ أم هل يمكن القول ان دين النصرانية ليس دينا سماويا كاملا من عند الله لافتقاره الى أحكام الشريعة؟ استغفر الله.
لكننا لو علمنا أن الشرائع السماوية هي بمثابة مناهج دراسية تربوية روحانية كما هو الحال مع المناهج المدرسية التعليمية، وأن كل شريعة منها تكمل سابقتها وتجهز أتباعها لاستقبال الشريعة التالية لها، لكان هذا التساؤل والاستغراب قد زال من عقول الكثيرين. فالتلميذ او الطالب لا يحتاج الى دراسة مواد مناهج سنته الدراسية السابقة مرة أخرى بعد نجاحه، بل يستند الى ما سبق وتعلمه منها، وما عليه إلا دراسة وحفظ منهج السنة التالية ليستمر في مسعاه وتقدمه، ولا يوجد عاقل يقبل بالعودة الى الوراء بدلا من التقدم. لذلك فلا غرابة أن تستمد الشريعة النصرانية بعض تعاليمها من شريعة التوراة، أو تستمد شريعة البابية أو البهائية من شريعة الاسلام، لأنها شرائع سماوية مكملة لبعضها البعض. بل والأغرب من كل هذا أن تبقي شريعة الاسلام على بعض العادات والتقاليد لأمة العرب وقد كانوا مشركين، وتقوم بتثبيتها في السنة الشريفة وفي القرآن الكريم، فيطبقها المسلمون ويعملون بها حتى هذا اليوم. ففريضة الحج الى مكة المكرمة على سبيل المثال، هي من شعائر عرب الجاهلية، والتقويم القمري والأشهر الحرم كان معمولا بهما بين العرب قبل ظهور الاسلام، فهل يتجرأ أحد على اتهام الشريعة الاسلامية أنها ليست كاملة لاقتباسها من عادات وتقاليد عرب الجاهلية الكافرين؟
هذا بالإضافة الى أننا لو دققنا في أحكام وتعاليم جميع الشرائع السماوية وحتى الشرق آسيوية غير المعترف بها من قبل غالبية المسلمين، نجد بينها عوامل مشتركة ثابتة لا تتغير، فعلى سبيل المثال، دعت جميعها وتدعو الى مبادئ الشرف والعفة والصدق وتحث أتباعها على المحبة والتعاون والتآلف وصلة الرحم ونشر العدل والانصاف والخير بين الناس. فهل تختلف تعاليم الديانتين البابية أو البهائية عن غيرها من بقية الأديان السماوية السابقة في مثل هذه المبادئ السامية؟ إذن لماذا تتهمان بالاقتباس من غيرهما، بينما تتفق جميع الشرائع السماوية فيما بينها على هذه التعاليم السامية، سابقها مع لاحقها، ولاحقها مع سابقها؟
وهناك من يتهم حضرة السيد الباب (علي محمد) بالجنون، ويقولون عنه أنه كان يقضي ليله ونهاره في الصلاة والتعبد في المسجد وفوق سطح منزله تحت أشعة الشمس المحرقة في أيام الصيف الحارة في مدينة بوشهر الساحلية أو في مسقط رأسه مدينة شيراز. والحقيقة أن نسل هذا الرسول الشاب ينحدر من سلالة العترة النبوية الطاهرة الشريفة، فوالدته من نسل الامام الحسن، بينما ينحدر والده من نسل الامام الحسين، لذلك كان يرتدي حسب التقاليد الاسلامية في المذهب الشيعي، عمامة خضراء فوق رأسه للدلالة على نسل والده الشريف، ويشد على وسطه حزام قماش أخضر اللون للدلالة على نسل والدته المحترم. ولقد كان هذا الشاب مشهوراً بين الناس بالتقوى والورع وكثرة التعبد والصلاة وحسن السيرة والسلوك الى بعد الحدود رغم صغر سنه، لكن الناس ـ وهذا ديدنهم ـ انقلبوا عليه وقاموا ضده وعاملوه بالاستهانة والاستخفاف والتقريح والتجريح، وبالضرب والحبس والسجن وبالاعتداء والاضطهاد والتعذيب الى درجة أنه أمضى سنوات دعوته الست، من 1844م الى 1850م، أي ما يقابلها في التقويم الهجري 1260هـ ـ 1266هـ، بين جدران السجون الايرانية المظلمة القاسية المشيدة على قمم الجبال الوعرة الى أن حكم عليه رجال الدين ورجال السياسة الايرانيين بالاعدام رمياً بالرصاص في مدينة تبريز.
ويا عجبي.. فعندما يتعبد الناس ربهم ويتظاهرون بالورع والتقوى، يعتبرون من مظاهر التقوى والايمان طالما انهم على دين آبائهم، لكنهم يوصمون بالمغالاة والجنون والعته حالما يدعون الى أمر جديد يستهجنه قومهم! وطالما أن تهمة الجنون قد ألصقت بغالبية رسل الله وأنبياءه، ولم يسلم منها حتى سيدنا محمد(ص)، وكان يثبت العكس على الدوام، فلا شك عندي أنه في مستقبل الأيام، بل وفي هذه الأيام، نجد أن أتباع هذا الرسول الشاب الشهيد المظلوم الذين يعدون بالملايين ومن مختلف جنسيات شعوب الأرض، يؤمنون بقوة عقله وعبقريته وقدسية شخصيته ونبل أخلاقه وعلو شأن تعاليمه وعظمة تضحيته في سبيل دينه وسبيل من بشَّر به. ويكفي المسلمين فخراً أن كل مؤمن بحضرة بهاءالله من الأديان السماوية، عليه أن يعترف ويؤمن بأحقية الرسول محمد بن عبد الله، صلاة الله وسلامه والملائكة أجمعين عليه وعلى آله وصحبه الكرام، وإلا فلن يقبل ضمن جامعته البهائية أبداً.
أن تهمة الجنون التي اتهم بها كل من السيد الباب وحضرة بهاءالله، لم تقتصر عليهما فقط، فهذه آيات القرآن الكريم تشهد بصريح عباراتها أنها تهمة لم يسلم منها غالبية رسل الله وأنبياءه، فبعدما يكونوا محط احترام وتقدير ومحبة أهليهم وذويهم والمحيطين بهم، تتغير الأمور وتتبدل على العكس تماما حالما ينزل عليهم الأمر الإلهي بإعلان دعواتهم، فينقلب الاحترام الى تحقير والمحبة الى كراهية والثقة الى شك وتتبدل الوجوه البشوشة لتنضح بالكراهية والحقد، وتتحول التحية والسلام الى سباب وشتائم حتى يصل الأمر في النهاية الى محاولات الاعتداء على حياة هؤلاء الرجال المقدسين. لكن كل هذا العداء وما يسجله التاريخ البشري من ممارسات سلبية، ينسى ويدفن بين أوراق التاريخ فيما بعد، ويتحول الى احترام وتقدير ودعاية موافقة مؤيدة، وتبذل النفوس والنفائس في سبيل إعلاء شأن دعواتهم حالما يبدأ دخول الناس في أديان الله أفواجا.
من الغريب أن نسمع أو نقرأ أن كل من قام ضد كل رسول في كل زمان ليكذبه ويخالفه ويحاربه، هم من كبار القوم وسادتهم والقائمين على تدبير أمور الناس الدينية والدنيوية. نعم، فهذا أمر مميز واضح، فإذا عدنا بالتاريخ الى أزمان ظهور رسل الله وأنبيائه، نجد تأييدا صريحا لذلك، ومن أكبر الأدلة ما ورد في القرآن الكريم في الآية المباركة (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين)(سورة هود، الآية27)، وهذا يعني بالبداهة، أن المتكلمين هم كبار القوم، فهذا نوح وهذا صالح وذاك ابراهيم وغيرهم العديدين، لم يتبعهم إلا أراذل القوم وعبيدهم وفقرائهم. لكن لماذا نذهب بعيدا في عمق تاريخ الأديان والشرائع، ولنا في دعوة السيد المسيح(ع) أقرب مثال على ذلك؟ إذ لم يقم على معارضته وتعذيبه وتكذيبه والسخرية منه، إلا رجال الدين اليهودي وعلى رأسهم قيافا كبير قضاة الأمة يسانده كبير الأحبار حنان حامي حمى الشريعة اليهودية. ومن المعلوم ان أتباع كل ديانة يسلمون زمام أمور دينهم في أيدي رؤسائهم ويتبعونهم في كل ما يأمرون به، إذ من المفروض أن يكون هؤلاء مدركين لأحكام شريعتهم اكثر من أتباعهم. وبهذا فالاتباع لا يقدمون على ممارسة شؤون حياتهم وأمورهم الدينية إلا باستشارة رجال دينهم، فإذا حكموا بأمر من الأمور، أجراه الأتباع بحذافيره وبدقة تامة لدرجة انهم يتفاخرون بنسبة هذا العمل أو الحكم الى رجال دينهم الكبار. لذلك فعندما حكم قيافا وحنان بكذب وجنون وجاهلية سيدنا المسيح(ع)، لم يجد أتباعهم بدا من موافقتهم والعمل بما أمروا به من أفعال مشينة بحق ذلك الرسول الشاب. واليوم وجدنا أن السيد المسيح(ع) كان رسول حق من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يؤمن النصارى بصدق دعوته فقط، بل والمسلمون كذلك، واتضح أن أولئك الأحبار الكبار رغم سعة علومهم وحكمتهم وكثرة قراءتهم قد ارتكبوا أكبر إثم يرتكبه انسان يدعي الدين والايمان، ألا وهو اضطهاد وتعذيب رسول مقدس من عند الله. فأين كانت عقول وألباب رجال الدين أولئك؟ ألا نخاف من تكرار ذات الذنب مرة أخرى؟ فهذا بهاءالله يدعو الناس الى توحيد عبادة الله سبحانه وتعالى والعودة الى الايمان مثلما فعل جميع رسل الله، ويضع الأحكام والقوانين الكفيلة بتوحيد الجنس البشري ونشر المحبة والسلام بينهم، وينظم عملية تحسين الحالة الاجتماعية والاقتصادية بين شعوب الأرض، ويقلص الفوارق الشاسعة بين طبقتي الفقراء والأغنياء، ويضع أسس الضرائب على الموارد التجارية والصناعية والزراعية وعلى الأغنياء بحيث يمكن تقليص الفوارق الاجتماعية بين الناس، وينزل الآيات والكتب في سبيل تعليم البشر مختلف الآداب والعلوم، ويفرض التعليم الاجباري، ويدعو البشرية الى اختيار أو اختراع لغة عالمية الى جانب لغاتهم الأم لتساعد في توحيد الأمم للاستفادة من تراث الشعوب وتكاتفها في تقدم الجنس البشري، ويعطي المرأة حقوق أفضل من ذي قبل ويساويها بحقوق الرجل في الإرث، ويضع أسسا جديدة لمجتمعات إنسانية أفضل، ويدعو الى ضرورة استعمال العقل والمنطق السليم في تدقيق الأمور والمسائل، والى رفض التقليد الأعمى دون تحقق؛ فهل هذه المبادئ والأحكام السامية تخالف مبادئ الانسانية أو المبادئ السماوية، أم تعلي من شأنها؟ أنصفوا بالله عليكم.
ثم نأتي على ما جرى من اضطهاد وتعذيب ومعارضة لرسول الله وسيد المرسلين محمد بن عبد الله صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الكرام أجمعين، لنجد ان من قام ضده في بداية سنين دعوته هم أهله وأفراد عشيرته وعلى رأسهم عمه أخ أبيه أبو الحكم الذي كان مشهورا بين الناس بحكمته ورجاحة عقله لدرجة أن كانت تأتيه العشائر والقبائل العربية من مسافات بعيدة قاطعة الفيافي والصحارى والوديان ليحكم فيما نشب بينهم من مشاكل كبيرة معقدة. لكنه وبمجرد أن كذب الرسول الكريم وخالفه في دعواه الصادقة، عكس سيدنا محمد(ص) لقبه الى العكس من ذلك، وأعطاه لقب أبا جهل، وما كان هذا اللقب إلا لعجزه في تمييز دعوة الاسلام الحق، ثم ما كان من اتهاماته المجحفة لسيدنا محمد(ص) بالكذب والجنون والعته ومحاولته الاعتداء على حياته وتآمره على المسلمين وهم ثلة قليلة والاشتراك في مقاطعتهم وحبسهم في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات مانعين عنهم الطعام والشراب. ثم اضطرار الرسول الكريم للهجرة من مدينته ومسقط رأسه الى المدينة المنورة للجوء والاحتماء بقوم غير قومه. ثم ما حصل من تجييش للجيوش ورص للصفوف لمحاربة دعوته ومحاولة قتله وأتباعه والقضاء التام على دعوته. لكن الذي حصل فيما بعد أن انتصر دين الاسلام بين العرب وغيرهم من بقية الأقوام تحقيقا لقوله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)(سورة النساء، الآية 64)، فإذا بالقبائل والجموع العربية تعود لتنقلب رأسا على عقب لتحارب أعداء الدين الاسلامي ولتفدي نفوسها في سبيل انتشاره. فهل كانت هذه المعارضة الرهيبة القوية من أمة العرب ضد الدعوة الاسلامية عند ولادتها، دليل الحق والحقيقة؟ كلا والله، فلقد أظهر الله أمره ونشر دينه ونصره على كل من عارضه.
إن أسباب المعارضة وكيل التهم المغرضة الفاسدة، عديدة لا تنتهي ولا يمكن حصرها في كتاب صغير، فلو تتبعنا تاريخ الأديان السماوية، لن نجد ديناً من أديان الله ظهر دون معارضة أو تكذيب، فمن عادة الانسان ومنذ القدم استهجان ورفض كل ما هو جديد مهما بدت الفكرة سليمة والعقيدة سامية؛ لكنه مع مرور الوقت، يكتشف خطأه ويعود أدراجه ليهدأ ويغير رأيه؛ ثم لينسب الى ما سبق وعارضه وقام ضده، أسمى الصفات، ويقدم له أعظم آيات التبجيل والاحترام، بل وليدافع عن فكره ومعتقده الجديد الى درجة فداء نفسه وأولاده في سبيله.
ومن بين التهم الأخرى، مجهولية أتباع الديانة البهائية وعدم شغلهم مناصب مميزة أو مرموقة بين قومهم. وهذه تهمة تبدو ساذجة بعض الشيء، لأن القياس المعمول به في هذا اليوم، هي المناصب السياسية او الدينية، وبما أن الديانة البهائية تمنع وتحرم على أتباعها التدخل في الأمور السياسية وبضرورة تنفيذهم لأوامر حكوماتهم بعدم ممارسة شعائر دينهم علنا او نشر دينهم بين العامة. لذلك لا يظهر منهم من يشغل منصبا سياسياً مرموقا بين أفراد المجتمع. لكنهم ومع كل تضييق الخناق هذا، يأخذون فرصهم المدنية والاجتماعية، فنجد بينهم الأطباء والأساتذة والمعلمين والمهندسين والفنيين والعلماء وأصحاب الحرف والتجار وكل ما يفرزه المجتمع من حرف وأعمال مفيدة.
وبمناسبة مجهولية عقائد البهائيين في المجتمعات الاسلامية، نسمع بين الحين والآخر من يتهمهم وشريعتهم بعدم وجود المحرمات في دينهم، وتعلو بعض أصوات الجاهلين بحقيقتهم، لتطلق حمم الاتهامات بحقهم في قلة الأخلاق وممارسة الزواج أو الرذيلة بين أقرب أقربائهم وبين أفراد عوائلهم وكأنهم يعيشون منعزلين في جزر نائية وسط المحيطات أو في كواكب أخرى، ولا يعيشون وسط هذا المجتمع العربي الاسلامي شديد التحفظ. ولكني أتساءل مع نفسي، ألا يكون لهذه العلاقات المحرمة في النهاية نتائج فاضحة تكشفها مع مرور الوقت؟ ألا يحتاج البهائي الى إثبات بنوته وأبوته في سجلات الدولة الرسمية؟ ألا تصدر من تلميذ أو طفل بهائي صغير لأقرانه او زملائه او أولاد محلته وجيرانه أو لمعلمته التي تتلصص وتنبش وتبحث بين طيات أحوال العوائل البهائية وبيوتهم، كلمة او إشارة تؤيد ما يتهمون به خلال أكثر من قرن ونصف؟
من المعروف أن المجتمعات العربية والاسلامية بل والشرقية عامة تولي أمر الشرف والعفة اهتماما كبيرا، والجميع يعلم أنهما مقياس احترام وتقدير الانسان في هذه المجتمعات، فإذا ما أراد شخص ما، النيل من أي خصم له وتحطيمه اجتماعيا، سارع للطعن في شرفه وعفة عائلته، إما علنا أمام الناس إن كان قويا قادرا، أو في السر تجنبا لعواقب الانتقام.
لذلك كان من الطبيعي أن تكون صورة هذه التهمة السيئة واضحة على لسان الحاقدين ومن تتعارض مصالحهم الدنيوية مع انتشار شريعة جديدة. لكننا لا نجدها تصدر من فئة أخرى تتروى وتحكم العقل وتضع الايمان ميزاناً لها. لكننا عندما نعلم أن الديانة البهائية ولدت من رحم الشريعة الاسلامية، وأنها امتداد لها ومكملة لما جاء في دين الاسلام من أحكام ونواه، نفهم أن الشريعة البهائية توافق وتتفق مع الشريعة الاسلامية في تحريم كافة المحرمات بتمامها كاملة لا نقص فيها، بل وتزيد عليها صراحة تحريم الاقتران بزوجة الأب التي لم يسبق أن حرمتها الشرائع السماوية السابقة بصريح العبارة، وبهذا تكون في الشريعة البهائية محرمات أكثر حتى من الشريعة الاسلامية التي تعتبر قمة الكمال في التشريع بالنسبة للشرائع السابقة لها.
ثم دعونا نتكلم بالعقل والمنطق السليم، ونرى أين يعيش البهائيون أفرادا وعوائل، ألا يسكنون بين بقية الناس، فكيف لا يطلع الجيران أو بقية الساكنين معهم في الشقق والعمارات على ما يحصل بينهم، إذا كانت هناك أفعالا ترتكب منافية للعفة والشرف؟ ألا يشاهدون ولو لمرة واحدة أمرا مريبا من خلال تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم؟ هذا إذا لم ننس أن صنعة التلصص والمراقبة والفضول والتدخل في شؤون الآخرين سمة شرقية قديمة. ثم ألا يكون هناك نتائج ملموسة لمثل هذه الأمور التي يتهم بها البهائيون..؟ فإذا كان هناك فعل مناف للأخلاق، أفلا يسمع به الجيران أو يشعر به الأقرباء أو يشاهده الأهل؟ ألا يفضح ممارساتهم من ينتمي الى دينهم حديثا من بقية الأديان بعدما يكتشف خطأه وانخداعه؟ خاصة وأن هناك العديد من البهائيين من أصول إسلامية أو مسيحية شرقية تبقى علاقاتهم قائمة ومستمرة مع عوائلهم وأصولهم حتى بعد إيمانهم وأولادهم وبناتهم بالديانة البهائية. ألا يدل عدم ثبوت أي تهمة أخلاقية مزعومة، خلال أكثر من قرن ونصف بين العوائل البهائية المقيمة داخل المجتمعات الشرقية أو الغربية، على انتفائها وعدم وجودها، خاصة بوجود هذا الكم الهائل من رجال الدين والسياسية والأمة والمخابرات، وكذلك المنتفعين وعديمي الضمائر من المنتشرين بين شرائح المجتمع؟ فكيف لم يسمع أو يشاهد فرد واحد من كل هؤلاء بمثل هذه الأمور إن كانت موجودة؟ ولماذا لم تثبت تهمة واحدة من هذه التهم على فرد واحد من البهائيين في جميع المجتمعات العربية والاسلامية المحافظة؟ ألا يدل كل ذلك على أنها مجرد اتهامات باطلة تطلق لابعاد الناس عن هذا الدين العصري العظيم. ثم لماذا يسكت كل هؤلاء الناس على مثل هذه التهم، وماذا يدعوهم للصمت على مرتكبيها؟ كيف يسكت أقرباء وأهالي البهائيين من مسلمين ونصارى وغيرهما من مختلف الأديان والشرائع والعقائد، بل وحتى غير المتدينين منهم على أمر شائن مخجل كهذا؟ أليسوا مثل غيرهم من بقية أفراد المجتمعات يخضعون الى ذات العادات والتقاليد والأفكار الشرقية ولا يرتضون بمثل هذه الأفعال الشائنة بين ظهرانيهم؟
ثم إذا كانت قلة الأخلاق والأعمال الشائنة والتصرفات المريبة هي الهدف الخفي من ظهور الديانة البهائية، كما يدعي قليلو الضمائر. فلماذا ينحى البهائيون هذا المنحى ويلبسونها (إذا وجدت) لباس الدين والتقوى والشريعة الإلهية، ويقاسوا كل هذا الاضطهاد والتعسف؟ أليس من الأفضل لهم البقاء على أديانهم القديمة، وممارسة قلة الأخلاق، تجنباً لكل ما يوصمون به ويحاربون من أجله؟ فإذا كان هذا هو هدفهم المستور، فلماذا لم يضطر القائمون على إدارة بيوت الدعارة والمواخير والشقق المشبوهة في المجتمعات الشرقية الى تبني أسماء أو مسميات وعنوانين دينية لممارسة أعمالهم وترويجها وتمشية أمورهم؟ أليس لأنهم وجدوا السبيل الأول، أسلم من السبيل الثاني؟
ثم أن البهائيون أمة كغيرها من الأمم، تتشكل من عوائل وأفراد وربات بيوت وأطفال، فلماذا ينظر لهم بعين الاحترام والتقدير لسلوكهم الحسن بين بقية مجتمعات البشر، بينما يتهمون بأشنع التهم الأخلاقية في المجتمعات الاسلامية والعربية على الخصوص؟ ألا يدل ذلك على أن مسألة تباين الأفكار والعقائد هو أمر مرفوض ومستهجن في هذه المجتمعات؟ وأنها مجتمعات متجمدة واقفة ترفض حقوق الانسان وتضطهد حرية الفكر والعقيدة وكل ما هو جديد، وأنهم لم يجدوا سبيلا للنيل من هذه الفئة المغلوبة على أمرها، إلا بالافتراء والكذب وإطلاق التهم الباطلة تجاههم دون حسيب أو رقيب؟ ألا يعلمون أن هذا لا يرضي رب العالمين، وهو سبيل تردي المجتمعات مهما كانت قوية؟

الأحد، أبريل ٠١، ٢٠٠٧

حقائق عن البهائية رواية بهائي عربي

بسم الله الرحمن الرحيم

علمني والدي وأنا صغير السن، أن لا أصرح أو أعلن لأحد باسم ديني أو هوية معتقدي، وإذا ما سألني شخص ما عن ديني، فعلي التملص من الجواب قدر الإمكان. والحقيقة أن الحياة الاجتماعية في بغداد لم تكن بهذه الصرامة والشدة في بداية النصف الأول من القرن العشرين، فلقد كانت حياة سهلة متسامحة بين الناس من أصحاب مختلف العقائد والمذاهب، فلم يكن هناك من يتفاخر على غيره بمذهبه، ولم أر مسيحيا أو صابئا إلا بعدما انتقلت من مدرستي الابتدائية داخل محلة سكني الى المدرسة المتوسطة بعيدا عنها. وهناك انتبهت الى انه في كل يوم خميس وفي آخر حصة دراسية، تستأذن مدرس مادة الدين مجموعة من الطلاب لترك الفصل والتوجه الى بيوتهم، لقد كانت تلك أول مرة أرى فيها أتباع أديان أخرى من غير المسلمين، لذلك عدت الى والدي أطلب الإذن منه بترك درس الدين مثل بقية أتباع الأديان الأخرى، لكنني فوجئت به وهو يأمرني بحزم بعدم فعل ذلك ويوضح لي أن ديني يأمرني البقاء داخل الفصل ومتابعة درس الدين ومنافسة أقراني في سعيهم واجتهادهم، والأغرب من هذا سمعته وهو يخبرني أن أصل معتقدنا هو الديانة الاسلامية، ومن ثم آمن أجدادنا بالدين البهائي.
أمضيت طفولتي وأنا أمارس الحياة البهائية بقدر ما يعلمني إياه والداي، فلقد تعلمت حفظ بعض الأدعية والمناجاة التي تقرأ عند الاستيقاظ أو الذهاب الى النوم وعند الشروع في الطعام وعند الخروج من البيت، وأن التحية المتبادلة فيما بيننا هي عبارة (الله أبهى)، وتقال في كل الأوقات، لا فرق بين صباح أو مساء. هذا بالإضافة الى أنني كنت أحضر دروس الأخلاق البهائية منذ أن دخلت الصف الأول في دراستي الابتدائية بأمر والدي، ودروس الأخلاق هذه عبارة عن مادة دينية تدرس للأطفال وتستمر لاثني عشر عاما حتى دخول الجامعة، فكنا ونحن صغار السن، إما أن نذهب الى بيت إحدى العوائل البهائية ليقوم أحد البالغين منها بتعليمنا، او أن يحضر المعلم بنفسه الى بيتنا، وعلى الغالب كان صباح يوم الجمعة هو الموعد المختار، باعتباره عطلة اسبوعية والجميع متفرغ خلالها. كنا نقرأ شيئا عن تاريخ الأمر البابي والبهائي وبداية سنين ظهورهما الأولى في العراق وايران وعن شخصياتهما المقدسة، بالإضافة الى ضرورة حفظ بعض الأدعية والآيات التي تحث على ممارسة الأخلاق الحسنة بين الناس. ولا زلت أذكر كيف كان يقابلنا سكان المحلة (الحارة) بالاستغراب وهم يشاهدوننا بملابسنا النظيفة حاملين بين أيدينا دفاترنا وأقلامنا متوجهين الى المحلة المجاورة، ولم تكن تلك الحالة لتمر دون سؤال البعض عن وجهتنا أو النطق ببعض كلمات المديح.
بمرور السنين، انتبهت الى أمر آخر، وهو دوامي على مرافقة أهلي في الذهاب الى بيت إحدى العوائل البهائية أو قدوم تلك العوائل الى بيتنا في وقت محدد عند المساء، وهذا ما كان يسمى بجلسات الضيافة أو ضيافات التسع عشرية، وتقام هذه المناسبات بعد المغرب عند بداية كل شهر بهائي، وبما أن السنة البهائية تقسم الى تسعة عشر شهرا، واليوم يبدأ بعد غروب شمس آخر يوم من الشهر السابق، لذلك كان هناك تسعة عشر جلسة ضيافة خلال العام الواحد.
والحقيقة لم أكن استحسن هذه الضيافات أو أشعر بالراحة لحضورها وأنا صغير السن، والسبب أنها كانت تخص كبار السن أكثر من الأطفال، فلقد كانت مملة لي بعض الشيء، إذ تفرض على الاطفال الجلوس بهدوء والاستماع لما يقرأه الكبار من أدعية ومناجات في بداية كل جلسة، بينما نجلس نحن كل بقرب أحد والديه وهو ملتزم جانب الصمت التام، وعندما تنتهي فترة الدعاء وتبدأ فترة المناقشة والمشورة بين الكبار، نعلم أنه وقت الخروج للحركة واللعب مع ضرورة التزام الهدوء وعدم الصراخ وإلا عوقبنا بالعودة الى مجلسهم. كنت أفرح كثيرا عندما يأتي دور إقامة الجلسة في بيت فيه حديقة أو حوش صغير حتى أمارس الحركة واللعب بحريتي، فلقد كان بيتنا صغيرا ونحن عائلة كبيرة؛ بانتهاء فترة المناقشات والمشورة والاقتراحات يخرج علينا من يدعونا للعودة وتناول الحلويات والمرطبات، فكنا نسارع لأخذها والعودة لاكمال لهونا. كنا نعلم ان وقت اللعب هذا لن يدوم طويلا، فبعد تناول الحلويات علينا بالعودة للجلوس مرة أخرى لاستماع مناجاة الخاتمة التي تعلن نهاية الجلسة. وكم كنا نخشى هذه الفترة، لأنهم كانوا يخصصونها لأحد الأطفال ليقرأ ما سبق وحفظه من الأدعية والمناجات عن ظهر قلب في الاسبوع الماضي، لذلك كان علينا أن نكون جاهزين لقراءة مناجاة أو دعاء جديد لم يسبق لنا قرائته خلال الاسابيع القليلة الماضية، وإلا فسوف ترتسم معالم الفشل على وجوهنا أمام الحاضرين.
لم أنتبه لأهمية شخصيتي كفرد بهائي، إلا ببلوغي سن الخامسة عشرة، ففي يوم عيد مولدي، دعاني والدي لأكتب ما سيمليه علي، وانتبهت وأنا أكتب، انه اعتراف مني بأنني بهائي الديانة وأرغب في الانضمام الى أتباع هذا الدين وأود تسجيلي كفرد من أتباعه. شعرت ساعتها بأهميتي كانسان بلغ من العمر ما يقتضي أخذ رأيه وتوقيعه، ولقد كانت تلك أول مرة أوقع فيها على ورقة. بانتهائي من الكتابة والتوقيع، قبلني والدي وقال لي: أنك الآن رجل بهائي، وعليك من الآن فصاعدا التزام الأخلاق الطيبة الحسنة البهائية والعمل بما يمليه عليك دينك من أوامر ترضي الله بحيث تتميز بين أقرانك وأصدقائك بأخلاقك الحسنة، فإذا حدث في يوم من الأيام وعرفوا أنك بهائي، فلن يقولوا عنك وعن دينك غير الكلام الطيب.
كانت سن الخامسة عشر مليئة بالأحداث المميزة في حياتي، إذ لم يلبث والدي أن أكمل كلامه وقال لي أيضا: أن الدين البهائي يفرض على أتباعه الصلاة والصوم في هذه السن، لذلك عليك بتعلم الصلاة وحفظ آياتها، وعليّ ابتداء من اليوم إقامة الصلاة ثلاث مرات في اليوم، في الصباح قبل الذهاب الى المدرسة وعند العودة منها وفي أول وقت المغرب. كما أخبرني انه وبحلول شهر الصيام البهائي القادم، سيتوجب عليّ الصيام معه ومع والدتي باعتباري أكبر اخوتي، وبذلك يمنع علي تناول الأكل والشرب من ساعة شروق الشمس حتى مغيبها.
والحقيقة كانت تلك الالتزامات صعبة التحقيق في واقع الحياة اليومية وداخل مجتمعي الذي أعيش فيه، إذ وجدت بعض الصعوبة بين زملائي في المدرسة تفسير عدم تناولي لوجباتي اليومية والمرطبات، وكنت أعلل ذلك بالقول أنني مطلوب عدة أيام صيام من شهر رمضان الماضي، ومع ذلك لم تخل تلك الفترة من بعض الخروقات التي كنت أحاول فيها مع نفسي جاهدا عدم تكرارها، خاصة والمجتمع الذي كنت أعيش فيه هو مجتمع حارات فقيرة الحال.
كنت أتجنب الدخول في مناقشات دينية مع أقراني، خاصة والدين لم يكن يشكل أمرا مهما في حياة الكثيرين منهم، لذلك كنت أقرأ في بيتي تاريخ الديانة البابية والديانة البهائية بينما كنت أقرأ في المدرسة تاريخ الديانة الاسلامية وحفظ آيات القرآن الكريم.
كنت أعلم مسبقا أن ببلوغي سن الواحد والعشرين، سوف أبدأ المشاركة في الانتخابات السنوية التي تقام في عيد النوروز الموافق للواحد والعشرين من شهر مارس، لانتخاب أعضاء المحافل المحلية، حيث يعتبر هذا اليوم هو اليوم الأول من العام البهائي.
تحتوي السنة البهائية على تسعة أيام مميزة، تسمى بالأيام المحرمة، ويرجع تسميتها بهذا الاسم لأنه يحرم فيها على البهائي العمل والكسب. وهذه الأيام منها ما يؤرخ حسب السنة الميلادية، ومنها ما يؤرخ حسب السنة الهجرية، وهي كالتالي: عيد النوروز الذي يعقب شهر الصيام مباشرة. أعياد الرضوان، وهي عبارة عن اثني عشر يوما، يحرم العمل في اليوم الاول والتاسع والثاني عشر منها، ومناسبتها انها الأيام التي انتقل فيها حضرة بهاءالله من شاطئ دجلة الغربي الى شاطئه الشرقي للاقامة في حديقة النجيبية (نسبة الى نجيب باشا صاحبها)، لكن حضرة بهاءالله أطلق عليها اسم حديقة الرضوان، وبقي هذا الاسم يتداول بين البهائيين في جميع أنحاء العالم حتى اليوم. ثم هناك يومي مولد حضرة الباب (علي محمد)، الرسول الشاب الشهيد الذي بشَّر بظهور حضرة بهاءالله من بعده. ثم يوم مولد حضرة بهاءالله. وهذان اليومان يتفقان مع الأول والثاني من شهر محرم الهجري، فلقد ولد حضرة الباب في اليوم الأول من شهر محرم سنة 1235هـ الموافق لسنة 1819 ميلادية. بينما ولد حضرة بهاءالله في اليوم الثاني من شهر محرم سنة 1233هـ، الموافقة لسنة 1817 ميلادية، وبذلك يكون حضرة بهاءالله أكبر من حضرة الباب بسنتين. ثم هناك يوم محرم آخر، وهو يوم شهادة حضرة الباب، ويقع في الثامن والعشرون من شهر شعبان. ثم هناك يوم اعلان الباب لدعوته في الخامس من جمادي الأول. أما اليوم الأخير من الأيام المحرمة البهائية، فهو يوم صعود (وفاة) حضرة بهاءالله، ويصادف في فجر يوم الثامن والعشرين من شهر مايو. أما الأيام الأربع أو الخمسة المتبقية من السنة، فتسمى أيام الهاء، وتخصص للفرح والسرور، ويحلل فيها الكسب والعمل.
خلال أيام شبابي، كنت أسمع بين الفترة والأخرى، بكاتب أو عالم دين مسلم، يكتب أو يتكلم بالسوء عن الديانة البهائية، خاصة في شهر رمضان، وكان أكثر هؤلاء الرجال من الأخوة المصريين، ولا أخفي على القارئ الكريم سراً كم كنت أشعر بالضيق والحزن لذلك، خاصة وأن كل ما كان يقال إما يفتقر للمعلومات الدقيقة أو هو نوع من التهجم والتلفيق والافتراء الذي ما انزل الله بها من سلطان؛ وما كان يثيرني أكثر، هو إصغاء الناس للمتكلمين وإعطائهم آذانا صاغية، أما المحزن في الموضوع، فهو أن المتكلمين لا يخرجون عن نوعين، فإما أنهم جاهلين بأمر الديانة البهائية تماما، أو مدفوعين بدوافع شتى، سنأتي عليها تباعا. فكنت أتساءل في نفسي ومع البهائيين من حولي: لماذا لا نرد عليهم وندافع عن ديننا وأنفسنا ونوضح الحقيقة للناس، فنحن على غير ما يقولون تماما؟ لكني علمت فيما بعد أن من واجبنا كبهائيين ضرورة المحافظة على النظام العام والانزواء والصمت وعدم إثارة البلبلة أو الرد بين أهل البلد إن كنا مواطنين أو مقيمين بينهم بحسب أوامر بيت العدل الأعظم ومن قبله حضرة شوقي أفندي ولي أمر الله. ومع ذلك لم تكن تمض سنة او سنتين حتى أعود لأسمع أو أشاهد مثل تلك الأقاويل أو الافتراءات، وما كان يزيد الحزن حزناً، أنها تصدر من رجال دين مسلمين محترمين كبار لهم مقامات وشأن عال بين الناس. وهذا ما دفعني الان لمحاولة الرد والكتابة خاصة بعد انتقل الموضوع من السر الى العلن وأصبح الموضوع يناقش على محطات التلفزيون وقنوات الأقمار الاصطناعية، لذا كان من الضروري توضيح المسألة بشكلها الصحيح باعتباري أحد البهائيين أباً عن جد.

تتنوع التهم الموجهة الى الديانة البهائية وأتباعها في مختلف الاتجاهات، فمنها ما يمس العقيدة وأحكامها وقوانينها وأحقيتها، ومنها ما يمس أخلاق الجامعات البهائية وطريقة ممارستهم لحياتهم اليومية، ومنها ما يرتبط بالسياسة والنظام وقوانين الدولة، ثم تتطور هذه التهم لتصل الى مجال الاتهام بالعمالة أو التجسس لدول معادية ثم الى الأفكار الهدامة للمجتمع والدين الاسلامي الحنيف الى تهمة الطابور الخامس الى الجبن والتخاذل ونشر فكرة الاستسلام والاستكانة بين المجتمعات الى معونة الدولة العدوة اسرائيل الى العمالة الى بريطانيا وأمريكا الامبريالية وغير ذلك الكثير من التهم الباطلة.
والغريب العجيب في الأمر، أن جميع هذه التهم الخطيرة والمتنوعة لم يثبت منها ولا حتى واحدة على البهائيين أو الديانة البهائية رغم وجود هذه الأمة الفتية بين المسلمين منذ أكثر من مائة وستين عاما، منذ يوم ولدت وحتى اليوم، ولم يثبت على أحد من البهائيين أي من هذه التهم الخطيرة التي يحكم بأصغر تهمة منها بالإعدام أو بالسجن المؤبد على من يرتكبها، هذا اذا تذكرنا ما للحكومات العربية والاسلامية والغربية والشرقية والعالم أجمع من مؤسسات الشرطة والمخابرات والاستخبارات والأمن والعسعس بل والجواسيس المنتشرين في جميع أنحاء الأرض، يساعد كل هؤلاء المواطنين المسلمين الغيورين على دينهم وأوطانهم ممن تربطهم بالعوائل البهائية صلة الجيرة والقرابة والصداقة والزمالة. فلماذا لم تثبت أي من هذه التهم القاتلة الخطيرة البغيضة على أحد من البهائيين رغم وجودهم وسط هذه المجتمعات؟ إن الجواب بسيط جدا وفي غاية البساطة، وهو: أن جميع هذه التهم والادعاءات والمفتريات، إنما هي تهم باطلة غير صحيحة ليس لها أي أساس من الصحة مطلقا. وإنما هي مجرد افتراءات لتشويه سمعة هذا الدين وأتباعه ليس إلا، والغرض من كل ذلك تشويه صورتها وإبقائها مجهولة الهوية مرتابة الجانب لإبعاد الناس عنها وإخافتهم منها حتى لا يطلع أحدهم على حقيقتها ومن ثم يؤمن بها.

من بين هذه التهم والافتراءات على سبيل المثال، أن مؤسس هذه الديانة، حضرة بهاءالله، كان خلال حياته عميلا لروسيا القيصيرية ضد الدولة الايرانية القاجارية. والحقيقة أن هذه التهمة لم تأت من فراغ، إذ لها جذور قديمة تمتد الى بداية ظهور الديانة البابية التي أعلن عنها حضرة الباب (علي محمد الشيرازي) في مدينة شيراز في ايران.
ولأخذ فكرة عن أصل هذه التهمة وامتدادها، علينا بالعودة الى بداية سنين الدعوة البابية، ففي سنة 1260هـ المصادف سنة 1844م، أعلن شاب صغير السن وكان عمره آنذاك خمسة وعشرون عاما، وبسرية لمجموعة من رجال الدين وطلاب العلوم الدينية المسلمين من المذهب الشيعي أنه المهدي المنتظر الذي يتوقعون ظهوره في هذا الأيام. وبالمناسبة كان هناك على الجانب الآخر من العالم، أي العالم الغربي، مجموعة من رجال الدين المسيحي واليهودي ينتظرون نزول السيد المسيح عيسى بن مريم من السماء راكباً على السحاب في ذات السنة حسب التقويم الميلادي. ولقد تهيأ الفريقان رجال الدين الاسلامي ورجال الدينين الآخرين لاستقباله والايمان به، فالشرقيون انطلقوا من مدينتي النجف وكربلاء شرقا الى ايران في مهمة البحث عنه، بينما شد رجال الدينين الرحال وسافروا من بلدانهم الغربية متوجهين الى فلسطين انتظارا لنزوله من السماء، اعتقادا منهم أن هذا هو مكان نزوله.
وبما ان حضرة الباب (علي محمد الشيرازي) كان في تلك السنة يقطن في مسقط رأسه مدينة شيراز، لذلك فعندما نزل عليه الوحي الإلهي، حدث أن عثرت عليه مجموعة علماء الدين المسلمين المذكورين آنفا، وتباعا واحدا تلو الاخر، آمنوا بدعوته وكان جلهم من الرجال في سن الشباب إلا امرأة شابة واحدة اسمها زرين تاج أو فاطمة ولقبت فيما بعد بـ (قرة العين) أو الطاهرة؛ وبالمناسبة ولعلاقة شخصية هذه المرأة بموضوع الكتاب، لم تسلم هي بدورها من تلفيق التهم الباطلة البغيضة ضدها، لما كان لها من دور عجيب خارق شجاع في نشر الدينين البابي والبهائي بين الناس، ولما لاقته من اضطهاد وتعذيب انتهى باستشهادها خنقا على يد شرطي سكير في حديقة من ضواحي طهران.
أطلق الباب على هذه المجموعة الأولى من أتباعه، وكان عددهم ثمانية عشر فردا، اسم (الحواريون)، ولقد آمنوا جميعا بدعوته بعدما شاهدوا معجزاته وقرأوا كتاباته المنزلة وتفسيراته لآيات القرآن الكريم، بعد ذلك أمرهم بالانتشار في البلاد وتبليغ أمره للناس، فكانت قوة الحجج والبيانات ووضوح الدلائل والاثباتات التي قدموها سببا مؤثرا في انتشار هذا الدين وإيمان الناس به، كما ساعدت في ذلك فكرة ظهور المهدي صاحب الزمان المنتشرة بين أتباع المذهب الشيعي. وخلال ست سنوات من عمر دعوته، آمن بها كثير من علماء الدين الشيعي، ومع ذلك صاروا فيما بعد طعمة للسيف. أما حضرة بهاءالله، فكان من أول المستلمين لخطاب مرسل ومعنون له من حضرة الباب، يخبره فيه اعلانه لدعوته، لأن بهاءالله كان يسكن مدينة طهران في شمال البلاد بعيدا عنه، فما كان من حضرته، إلا أن قام بكل قوة وعزم على نشر دين الباب ودعوته بين أبناء بلدته نور والقرى المحيطة بها، وبذلك عرف فيما بعد أنه من أشد أنصار الباب، بل ومن أقوى القياديين في دعوته.
ولنعد الى أصل تهمة العلاقة بين هذا الدين الشريف وبين الدولة الروسية، فلقد كان حضرة بهاءالله (حسين علي النوري)، ينتمي الى طبقة الأشراف والأمراء في ايران، فوالده كان وزيرا في حكومة الامبراطورية القاجارية، وله أملاك وأراضي وقرى وقصور لا عد ولا حصر لها، وعندما توفى والده، عاد أمر إدارة أمور هذه الأملاك الشاسعة والثروات الطائلة الى أولاده، وبما أن حضرته كان الابن البكر لأبيه، لذلك آلت إدارة هذه الأملاك والثروات اليه، ونتيجة لشهرة عائلته وغناها وعراقتها وشرف نسبها، فهو يرجع في نسبه الى سلالة الملوك الساسانيين حكام بلاد فارس القدماء والذين ترجع أصولهم الى سيدنا ابراهيم الخليل(ع) من زوجته قطوره التي اصطحبت أولادها شرقاً من العراق الى ايران بعد أن هاجر زوجا غرباً. فلا غرابة أن يرتبط حضرة بهاءالله وإخوانه وأخواته بصلة الزواج والقرابة بعوائل أخرى راقية غنية عريقة موازية لها في المقام الاجتماعي والغنى المالي، ولا عجب أن تتزوج إحدى أخواته من رجل مرموق تدرج في مناصبه الادارية حتى وصل الى منصب السكرتير الثاني في السفارة الروسية في طهران، وكانت لصلة القرابة هذه السبب المباشر في ظهور تهمة الارتباط بالدولة الروسية.
ولتوضيح أصل هذه التهمة، علينا بالعودة الى الوراء قليلا، فعندما قامت الدولة القاجارية بجيوشها وعتادها وعتيدها يساندها رجال الدين وأتباعهم في ايران ضد الدعوة البابية ومؤسسها وأتباعه وعرضتهم لأشد أنواع التعذيب والتنكيل ثم القتل بالذبح تارة وباطلاقهم من فوهات المدافع تارة أخرى بدرجة واسعة أن لم يبق ركنا ولا أرضا في اقليم فارس إلا واصطبغ بدمائهم انتقاما لفعلة اثنين او ثلاثة من شباب البابيين المتهورين حينما قاموا بالاعتداء على حياة السلطان ناصر الدين شاه انتقاما لاصداره أمر إعدام حضرة الباب مؤسس الديانة البابية في سنة 1850م، وبعد القضاء عليهم بشكل أقرب الى التام، ارتأت السلطتين، المدنية والدينية في ايران، بل ظنّت أن هذه القضية أو (الفتنة) لن تنتهي إلا بقتل أقوى مؤيديها ومناصريها، وهو حضرة بهاءالله بعدما قتلت جميع حوارييها وغالبية أتباعها ومن يتسمى باسمها، بل ونال القتل والذبح ومصادرة الأملاك أعدادا غير قليلة من المسلمين لمجرد الشبهة أو الوشاية بهم، فأمرت الحكومة بحبس بهاءالله في سجن قذر تحت الأرض يدعى (سياه شال) مع اللصوص والقتلة وقطاع الطرق وعتاة المجرمين، وبعد ان أمضى في ذلك الجب النتن، الأربع أو الخمسة أشهر الأخيرة من عام 1852م، لم تجد سلطة الامبراطورية القاجارية بداً من إطلاق سراحه بعدما لم يثبت عليه اشتراكه في المحاولة الفاشلة، لا من قريب ولا من بعيد، بل وحتى أن أحدا من الوشاة لم يتعرف عليه كفرد من البابيين.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن الوحي الإلهي الذي أمر حضرة بهاءالله بإعلان دعوته وتأسيس الشريعة البهائية بعد الديانة البابية ومن قبلها الديانة الاسلامية، قد نزل عليه في هذا السجن المخيف وعلى شكل حورية جميلة مزينة نازلة من السماء، كما سبق ونزل هذا الوحي من قبل على سيدنا محمد(ص) على شكل مَلَك مقدس وعلى سيدنا عيسى(ع) على شكل حمامة وعلى سيدنا موسى(ع) على هيئة نار.
من هنا ظهر أساس هذه التهمة التي بقيت تستعمل لحد اليوم، تهمة علاقة الديانة البهائية بالامبراطورية الروسية ومساندتها لها أو إيجادها للنيل من دين الاسلام وزعزعته. فخلال فترة سجنه في ذلك الجب، كانت أخته التي كانت تحبه حباً جماً، تلح وتتوسل الى زوجها الذي يعمل سكرتيرا في السفارة الروسية أن يطلب من السفير الروسي التوسط واستعمال سلطته لمساعدة أخيها حضرة بهاءالله (حسين علي) ومحاولة إطلاق سراحه؛ ويبدو أن السفير نجح في مسعاه عندما طلب من وزير الخارجية ورئيس الوزراء القاجاري أن يجريا أحد الأمرين تحقيقا للعدالة، فإما أن يكون بهاءالله مداناً وتهمة الاشتراك في تلك المؤامرة ثابتة عليه، أو أن يكون بريئاً. فإذا كان مشتركاً، فعليكم الانتهاء منه وإعدامه، أما إذا كان بريئاً، فالعدل والقضاء يأمران بالافراج عنه.
وهذا ما حصل في النهاية، حيث تم الإفراج عنه بعدما صودرت جميع أملاكه المنقولة وغير المنقولة، ولا حاجة لذكر مقدارها، إنما نأتي على شيء قليل منها على سبيل المثال لتصوير مقدار غنى حضرة بهاءالله، فلقد كانت لديه مسبحة طويلة للصلاة ورثها عن والده، حبوبها مصنوعة من الدر الخالص، وكذلك كانت لديه قطعة جلد قديمة كتبت عليها قصيدة للامام علي بن أبي طالب وبخط يده الشريفة، تثمن قيمتها بقيمة عدد أبيات القصيدة، ولقد كانت قيمة كل بيت شعر منها يعادل في ذلك الزمان اثنى عشر ألف تومان. فإذا علمنا أن كل تومان كان يساوي ما قيمته دولار واحد، لذلك نترك تقدير قيمة هذه المخطوطة النادرة الثمينة للقارئ الكريم.
لم آت على ذكر هذين المثالين لتصوير مقدار غنى حضرة بهاءالله، إلا لسبب مهم، وهو الرد وبشكل قاطع على كل من يتهمه أن أحد أسباب إيجاده الديانة البهائية، هو رغبته في الشهرة والمال، فحضرة بهاءالله كان غنياً بشكل لا يمكن تصوره، وكان مشهوراً بدرجة كبيرة في دولة ايران لدرجة أن رئيس الوزراء عرض عليه منصب وزير في وزارته وهو ما زال في أواسط العقد الثالث من عمره، لكنه اعتذر عن ذلك المنصب، مما دفع برئيس الوزراء للتعليق: أن هذا الرجل له أمر ومقام آخر أعلى بكثير مما نعرضه عليه، فدعوه وشأنه.
وبالمناسبة.. إن ما أوجزه هنا من رد سريع مختصر وبهذه العجالة عن تاريخ الديانة البهائية وعن شخصياتها المقدسين العظام، إنما هو توضيح مختصر لأحداث تاريخية عظيمة امتد عمرها لأكثر من نصف قرن، وهو موثق ومقيد ومسجل في السجلات الحكومية الايرانية (إلا إذا شطبت أو أخفيت فيما بعد من قبل الأعداء، او زالت واختفت لسبب آخر)، لكنها وبدون شك ما زالت موجودة وموثقة في كتب التاريخ والسجلات البهائية.

لا إله إلا الله محمدرسول الله نعــم أنا بهائي..

المقدمة
بين الفينة والأخرى، يثار موضوع الديانة البهائية في الوطن العربي على صفحات الجرائد أو القنوات الفضائيات أو يصدر كتاب لمؤلف أو تكتب مقالة في مجلة لتهاجم الديانة البهائية أو تنعتها وأتباعها بشتى أنواع التهم الكريهة والصفات السيئة والأقوال البذيئة. وخلال عقود حياتي الست التي أمضيتها بين ظهراني العرب المسلمين وتنقلي للعمل في العديد من بلدانها، طرق سمعي أنواع متعددة من هذه التهم، منها ما يسقط المنتمي لهذا الدين أخلاقيا الى حضيض المستويات الاجتماعية، ومنها ما هو أشد وأقسى وطأة لدرجة أن يرسل بصاحبها وخلال دقائق معدودة ليعلق طائراً محلقاً بحبل المشنقة.
وبما أنني رجل بهائي من عائلة بهائية أباً عن جد، بل ويعود انتمائي لهذا الدين الحنيف الى أول سنين ظهور دعوته المباركة في العراق، فقد شعرت أن معين صبري قد نفد ومياه حكمتي قد جفت ولم يعد في الامكان الصبر والاصطبار أكثر من هذا ولا بد من توضيح الأمر للعقلاء من هذه الأمة وحكمائها.
لذلك قررت تأليف هذا الكتيب رداً على غالبية ما ورد من تهم وافتراءات ما أنزل الله بها من سلطان تجاه الديانة البهائية، إذ من المعلوم أن من عادة الناس إذا لم يجدوا أحدا يرد عليهم قولهم ويوضح حقائق الأمور، يظنون أنهم ينطقون بالحق والقول الصواب، وأنهم يحكمون بما أنزل الله، فيسترسلون في قذف أنواع جمرات التهم الحارقة.
ولقد عشت حياتي البهائية كاملة بتمامها حتى هذا اليوم، وسبق لي وانتخبت من قبل جامعة البهائيين عضوا في محافلها المحلية والمركزية في عدة بلدان عربية، لذا فقد سنحت لي الفرصة للاطلاع على خفايا إدارياتها وشؤونها الخاصة جدا بعد أن كانت حياتي البهائية الشخصية تقتصر على الأمور الروحانية والحياتية فقط. لذلك وجدت أن من واجبي وتوضيحا للحقيقة، تخصيص هذا الكتيب للرد على غالبية ما سمعته وأتذكره من تهم وافتراءات ما زالت عالقة في ذهني، وسأسرد باختصار شديد كل ما شاهدته من أمورها وحقائقها التي يجهلها كثير من المسلمين، بل وحتى بعض من البهائيين أنفسهم، وأترك الأمر والموضوع والحكم للعقلاء والمؤمنين وأصحاب الضمائر الحيّة.

بهائي عربي